ظلّ الرئيس قيس سعيّد منذ تولّيه رئاسة الجمهورية ينتهج نهج التحدي في إدارة الدولة التونسية، ولم يضع في المقام الأول رمزيته التي تتمحور حولها وحدة الدولة. يهدّد صارخاً بالوعيد كل شريك سياسي، متناسياً دوره المنتهي مع الطلبة في الأوساط الجامعية، ويبدو أنه يعرقل كلّ مقترح يخالف فهمه الخاص وممارسته لقواعد اللّعبة السياسية، ويسمح لنفسه بالترنح بين السُّلطات والمؤسسات المفصول فيها دستورياً، ما جعله في صدام مستدام مع معظم الطبقة السياسية التي تشاركه الحكم، أبرزها حربه الضروس ضدّ رئيس الحكومة هشام المشيشي، الذي كلّفه في وقت مضى بتشكيل حكومة، خالقاً بذلك أزمة سياسية حادّة، شاركه في مسؤوليتها جلّ الأحزاب السياسية، لتلقي بظلالها الحارقة على المجتمع برمّته.
لكن على غير العادة، وفي حين غفلة، تغيّر نهج الرئيس من مجرد التمرد وفرض وجهة النظر إلى تسلّط والانفراد بالحكم، وذلك باسم الدستور، ملقياً بمستقبل الديمقراطية التونسية ومؤسّساتها إلى المجهول؛ فهل درسَ الرئيس عواقب قراراته وانعكاساتها مستقبلاً على الممارسة السياسية ومبدأ الديمقراطية الذي يقتضي الفصل بين السلطات وعدم التفرّد بها، أم كانت مجرّد قرارات ارتجالية شعبويّة، قد تعصف بالإرث الهزيل للثورة، ومعه مستقبل الدولة التونسية وأجيالها المفقرة.
لا يستلزم فهم الوضع الحالي في تونس الزاد الوافر من العلوم السياسية والقانونية، كي نفهم أنّ ما أقدم عليه رئيس الدولة خطير وغير منطقي في وسط ديمقراطي، خاصةً إذا ما نقّبنا فيما سبق من تجارب لدول عدة، فإقحام المؤسّسة العسكرية في أي شأن سياسي، بالأخصّ الصراعات السياسية، لم ينعكس تاريخياً بأي نتائج إيجابية، لا على الشعوب ولا على السير الحسن للدول، بل كان في أغلب الأحيان سبباً للتفقير والتهميش والتكتّم على الفساد، الذي يراد له أن يزول من المجتمع التونسي.
ما ميّز مسار الدولة التونسية عن باقي الدول العربية على مرّ تاريخها المعاصر هو حياد مؤسّستها العسكرية، وروحها الوطنيّة العالية التي جنّبت ثورة الياسمين الارتطام بوحشية الدكتاتورية وشبح الفوضى. اصطفافها اليوم وراء شقّ سياسي على حساب آخر، ومساهمتها في تعطيل أهمّ مؤسسات الدولة، يحمل في طيّاته الكثير من التساؤلات والمخاوف. ما هي الدوافع الحقيقية وراء هذا التغيير المفصلي الخطر الدّاهم على الدولة مثلما يفتأ يردّد الرئيس قيس سعيد، أم امتيازات اقتصادية وسياسية تعِد بتعاظم دور المؤسّسة؟
في السياق نفسه، يلقي الهوى المتناقض للرئيس في تفسيره للدستور، بالدولة التونسية إلى مفترق طرق، حيث يعتبر تارة بعض نصوص الدستور شكليّة، لا يجب الالتفات إليها، كاستشارة رئيسي البرلمان والحكومة، التي لم تحدث بشكل سليم، عند تفعيله للمادة 80 من الدستور، ولا موجب الانعقاد الدائم للمجلس النيابي طيلة مدة التدابير، في حين يولي أهميّة بالغة لبروتوكولات أخرى ويراها من صلب الدستور، ليعطل بموجبها قوانين حيويّة لمناعة الديمقراطية، مثل تأدية اليمين الدستورية والإمضاء على القوانين، المُصادق عليها برلمانيّاً، في نظام شبه برلماني.
من جهة أخرى، يوحي الخيال الواسع للرئيس في قراراته الأخيرة وتأويله لفصول الدستور بعطب عصيب، قد تعرفه مؤسّسات الدولة في قابل الأيام، ففي ظلّ تجميد المجلس النيابي غير المستند إلى الدستور، تبقى عديد من الأسئلة تنتظر جواباً، من سيمنح الثقّة والشرعية لحكومة الرئيس، وهل ستشكّل حكومة مؤقّتة تنتهي مهامها في غضون شهر، مثلما ينصّ على ذلك الدستور، وكما يدّعي البعض؟
كل هذه التساؤلات تضع مصير الدولة التونسية أمام فرضيّتين كلاهما مظلمة، إمّا أن تكون قرارات الرئيس الأخيرة سلطوية شعبويّة، غير محسوبة العواقب، يمتص بها امتعاض الشعب التونسي، دون خارطة طريق عملية، ومن دون مشروع، غير شعار "الشعب يريد"، أم المراد بها تجميع السلطات في يد منفردة، تُديرها بالمبدأ الفرعوني "لا أريكم إلا ما أرى"، ما سيكون كارثيّاً في الحالتين على آخر قلاع الديمقراطية العربية.
إن ما يفرق الأنظمة الدكتاتوريّة عن غيرها هو التلاعب بدساتيرها حسب الأهواء، وحصر سُلطات الحكم في يد واحدة، وعليه، مهما كانت النوايا، فإن الدولة التونسية عقب قرارات الرئيس الأخيرة تعيش منعرجاً قد يكون بالغ الخطورة، إن لم يتدارك الوضع، وتُحسن إدارة هذه المرحلة الدقيقة، بما تقتضيه أدبيات الديمقراطية، دون سنّ مبدأ الإقصاء ولا الاحتكار، الذي يراد لشعب يعشق الحرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.