رغم أن تونس ولادة للكثير من الشعراء والأدباء والمفكرين المؤثرين في تاريخ الثقافة العربية، فإنها بالنسبة لي وللكثيرين تفرّدت بتميز أبنائها في التعليق الرياضي، خاصة في كرة القدم، فمن منا لا يعشق تعليق التوانسة على المباريات؟
وعلى ذكر التعليق التونسي لا أنسى مطلقاً تعليق رؤوف خليف على "أسيست" زيدان لهنري، في مواجهة فرنسا والبرازيل في كأس العالم 2006، عندما صرخ قائلاً: "بالملليمتر يا حبيبي بالملليمتر".
وبالتفكير فيما حدث في ليلة 25 يوليو (تموز)، يبدو أنني افتقدت تعليق رؤوف بالأمس وأنا أشاهد الأخبار القادمة من تونس، فقد نفّذ الرئيس قيس سعيد انقلاباً على الشرعية الدستورية، في نسخة مشابهة في بعض الجوانب لما قام به السيسي قبل سنوات في القاهرة "بالملليمتر"، وليس غريباً على الإطلاق التشابه الكبير بين ما حدث في مصر عام 2013 وما حدث في تونس 2021، فسعيّد نفسه قد عبّر من قبل عن رغبته في استنساخ التجربة المصرية، قبل زيارته لمصر أبريل (نيسان) الماضي، حيث وصف الوضع السياسي في تونس بأن البلاد على فراش المرض، وأن الطبيب يجب أن يذهب إلى الصيدلية لإحضار الدواء لها، ربما كان الدواء الذي يقصده سعيد هو الانقلاب على الدستور، أما الصيدلية فقد كانت القاهرة، وبالتحديد قصر الاتحادية الذي يقطنه عبدالفتاح السيسي، وللأسف فقد حصل سعيد على الوصفة القاتلة من القاهرة بالفعل، ويبدو أنه بدأ حقن تونس التي تقبع على فراش المرض بها.
لكن.. وإن كان ما حدث من تشابه ليس بغريب، كون أن القوى الإقليمية التي دعمت ما حدث في مصر قبل سنوات قد تكون نفسها التي تقف وراء ما يحدث في تونس الآن، فبكل تأكيد ما سيحدث مستقبلاً سيكون مخيفاً ومتوقعاً أيضاً، فالخطوات التي أقدم عليها سعيد من تجميد للبرلمان ورفع الحصانة عن نوابه تنذر باعتقالات قادمة لبرلمانيين توانسة، هذه الاعتقالات سيتبعها على الأغلب اعتقالات في صفوف كل القوى السياسية من نشطاء وشباب الثورة، مروراً بكل من دعمها ووقف إلى جوارها، والمشكلة لا تقف عند هذا الحد، فقد استحوذ سعيد منفرداً بالسلطة القضائية والنيابية، منصباً نفسه نائباً عاماً لعموم البلاد في إجراء عجيب، حيث أشار الرجل أنه سيشرف بنفسه على محاسبة أعضاء البرلمان والسياسيين التونسيين، ما يعني بكل تأكيد المزيد من القمع وخنق المناخ السياسي العام، وهو ما حدث في مصر عقب الانقلاب بأشهر، حيث أصدرت رئاسة الجمهورية التي استحوذت على السلطة التشريعية آنذاك مرسوماً جديداً يمنع التظاهر في عموم البلاد.
وإذا سِرنا قليلاً نحو المستقبل فسنجد أن القوى الداعمة للانقلاب في مصر لم تكتفِ بتحقيق رغبتها في إقصاء قوى سياسية بعينها عن الحكم، بل إنها استفادت كثيراً على الصعيد الاقتصادي والسياسي من ذلك، وهو ما قد يحدث في تونس بكل تأكيد، حيث ستطمع هذه القوى الإقليمية في خيرات الشعب التونسي، تحديداً موانئه المطلة على البحر المتوسط، وكذلك جذب تونس إلى تحالفات إقليمية كانت تونس على مدار سنوات تنأى بنفسها عن الانخراط فيها، حرصاً على البقاء على مسافة واحدة من الجميع.
وأضف لكل ذلك الوضع الاقتصادي المرير المتوقع لتونس، فرغم تردّي الأوضاع الاقتصادية بالفعل، خاصة بعد تفشي فيروس كورونا، فإن هذه التغيرات السياسية البعيدة كل البعد عن الديمقراطية ستُلقي بظلالها على الاقتصاد أيضاً، فأيٌّ من الدول الكبرى حول العالم أو الشركات صاحبة الاستثمارات لا تفضل العمل في دولة تعيش اضطرابات سياسية كبيرة، فإقصاء فصيل سياسي كبير بحجم حركة النهضة التي تسيطر بالفعل على أغلبية البرلمان يعني احتقاناً شعبياً لن يهدأ بسهولة، وهو أكثر ما لا تحتاجه تونس الآن.
نحن إذاً أمام واقع مشابه أو أسوأ بكثير من الذي كان في مصر قبل سنوات، فالرئيس التونسي لم يكتفِ بحل البرلمان، بل استحوذ على سلطته، ولم يكتفِ كذلك بإحداث تغييرات في صفوف السلطة القضائية، بل استحوذ عليها هي أيضا؛ ليتحول سعيّد إلى الحاكم الأوحد في البلاد، الذي يملك كل الصلاحيات والسلطات الممكنة، والتي يحاول السيسي نفسه حتى اللحظة حيازتها، بعد ثماني سنوات من انقلابه على السلطة، وهو ما يعني أن المستقبل لا يبشر بالخير حال مرور هذا الانقلاب الدستوري في تونس مرور الكرام.
وأخيراً فإن التجربة التونسية ألهمت المجتمعات العربية بالكثير، ولا جدال في أن كلاً منا مدين لتونس بالكثير، أوله الكرامة، ففي مصر نقول: "القَرْعة تتباهى بشَعر أختها"، وفي الواقع السياسي نقول ضحايا الديكتاتورية يفرحون لأصحاب الديمقراطية، لقد كانت الإجابة دائماً تونس، وكم أرجو أن تظل، فقد منحتنا تونس ولو لبعض الوقت انتصاراً للربيع على أعدائه من القوى الإقليمية، كما منحتنا نموذجاً لدولة عربية نامية استطاعت تطبيق تجربة ديمقراطية كاملة لعقد كامل من الزمن، لتذكرنا دائماً بأن بلادنا من الممكن أن تتقدم، وشعوبنا من الممكن أن تملك كرامتها وتحصل على حريتها في كل شيء، وبكل تأكيد إن كنا نغبط تونس فهناك آخرون يحقدون عليها، سعوا بالطبع لنزع الديمقراطية من مناخها السياسي، وتحويلها لمناخ مشابه لذلك الذي يعيش تحت ظله عشرات الملايين من المصريين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.