النظام الحاكم في أي مكان وزمان، ما هو إلا ثلة من جموع الشعب، فلا يمكنه الاستمرار إلا في ظل سياسة تعمُّ أفراد وجماعات ومؤسسات تلك الدولة، وهذه السياسة ربما كانت تطبيقاً لمنهجٍ -على اختلاف طبيعته- وربما كانت قوة غاشمة لا هدف لها إلا فرض السيطرة -على اختلاف درجات نجاحها في ذلك- ومهما اختلفت السياسة فإنها لا بد لها من فكرٍ تعمل من خلاله، وبحسب طبيعة ذلك الفكر، ومدى التزام تلك السياسة بتطبيقه؛ يكون نجاحها أو فشلها.
وفي سيرة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- مواقف كثيرة، يُضرب بها المثل في طريقة والتزام وتطبيق الفكر الصحيح، الذي يعبِّر عن النضج السياسي، ويؤتي ثماره المطلوبة، التي تتمثل في إثبات المصداقية، وفرضِ الهيبة والاحترام؛ ومن ذلك -على سبيل المثال- قصة عبد الله بن أُبي ابن سلول، حين قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؛ فقال عمر: ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث؟! فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه" [أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 183)]، وقد كان بإمكان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يترك عمر –رضي الله عنه- ليقتل ذلك المنافق، لكنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- يبني أمَّة، فلم يترك مجالاً لسوء الظن مِن قِبَل أعداء الإسلام، فإِعمال الفكر أمرٌ ضروري قبل استخدام القوة وإن أتيحت.
وحين ننظر إلى واقعنا المعاصر، الذي تدهورت فيه أحوال العالم العربي والإسلامي، وضعُفت أنظمته الحاكمة عن النهوض من كبواتها التي طال أمدها؛ نجد الفجوة الواسعة بين سياسات هذه الأنظمة وبين أهل الرأي والحكمة من العلماء والمفكرين، تلك الفجوة التي تنْفذ منها الأفكار الخبيثة، التي تقذف حممها في أوعية أنظمة سياسية وجدت نفسها تدِير الأمور دون أن تدرك شيئاً من معنى السياسة، التي جاءت لتمارسها، سواء أكان مجيئها بطريقة مشروعة، أم بأسلوب الغلبة والقهر.
إن الأنظمة السياسية يجب أن تدار من خلال فكرٍ واعٍ، قادرٍ على قراءة الأحداث قراءة صحيحة، ولديه القدرة على استنباط العِبَر من الماضي، والإفادة منها في الحاضر، واستشراف المستقبل، والإعداد الجيد له؛ وتلك هي الأنظمة القوية، التي تستطيع الحفاظ على إمكاناتها ومقدَّراتها، وقد قصَّ علينا القرآن الكريم قصة بلقيس ملكة اليمن، وذكر لنا حصافتها، في قوله تعالى (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل: 33- 35]؛ فهي لم تلجأ إلى التعامل من منطلق القوة، رغم توافرها في جيشها؛ لكنها ساست الأمر بفكرٍ واعٍ، كان من نتائجه هدايتها إلى الحق وإسلامها هي وقومها.
والأمر الملاحَظ من خلال الشواهد التاريخية؛ أن أهم عوامل الضعف السياسي تكمن في التخبط الفكري في قراءة الواقع، الذي يؤدي بدوره إلى الفشل الذريع في التعامل معه، وكذلك في استنباط العواقب، وبالتالي عدم القدرة على التعامل معها عند وقوعها؛ ولا يمكن لعوامل القوة الأخرى أن تعالج ذلك الضعف السياسي، إلا إذا كان في مقدمتها قوة الفكر وجدِّيَّته، سواء أكان الأمر يتعلق بالسياسة الداخلية أم بالسياسة الخارجية.
فربما توافرت لبعض الأنظمة عوامل القوة، لكنها لا تحسن استغلالها، حيث يتربص المنتفعون وذوُو المصالح، الذين يسعون إلى الارتماء في أحضان السلطة، واستغلال مقدَّراتها في تحقيق أهدافهم الخاصة، التي تعود بالضرر على الآخرين، وهم حين يسعون إلى تحقيق ذلك إنما يسعون من خلال فكرٍ خبيثٍ، يقوم على التوجُّه بمقدَّرات دُوَلِهم إلى الطريق الذي يصلون به إلى غاياتهم، فنجد الإمكانات والمقدَّرات متوافرة في تلك الدول، ورغم ذلك تعاني من الجهل والتخلف، الذي يرسم صورة حقيقية لضعف أنظمة الحكم القائمة.
بينما نجد دولاً أخرى لا تتوافر لديها مقوِّمات التقدم، لكن تسير أنظمة الحكم بها في تيار الفكر الصحيح، الذي يصطنع تلك المقوِّمات اصطناعاً، وما على النظام السياسي القائم إلا تنفيذ تلك الخطط وتطبيقها بصورة صحيحة، تعود بالنفع على مؤسسات الدولة وجماعاتها وأفرادها.
ومما سبق نلاحظ أن علاج الضعف السياسي ليس بالأمر العسير؛ لكنه يتوقف على مدى استعداد الأنظمة السياسية نفسها لتقبُّل ذلك العلاج، الذي يوفره لها العلماء والمفكرون غير الانتفاعيين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.