الشعب العراقي يمقت الروتين الممل، فمثلاً قصة أن يذهب إلى المستشفى للعلاج من مرض ما يعاني منه ثم يشفى وتكلل باقات الورود والتهنئة له بالسلامة، لا تجدها بالعراق، بل تتحسن عافيته للأفضل كلما اشتدت الدعوات والابتهالات لوجه الله تعالى، ولن تتطاير ابتسامات أهل المريض مع نسمة هواء منعشة تداعب جبهته المتعبة ويخرج منها مودعاً الممرضة بابتسامة الامتنان، لن تجد كل هذا، لأنه يغادر المشفى على خشبة تتدافع الأيادي لرفعها مع جروح تملأ جسده الذي التقفته النيران وتتراوح درجات الحرق فيه، فقد يموت وتختفي ملامحه وتنتهي حياته، وكما كانت تقول جدتي- أطال الله عمرها- بلهجتها البغدادية الأصلية "ولك ردناه عون طلع فرعون"، وهذا المثل البغدادي الساخر يطلق لمن تطلب نجدته فيظلمك هو أيضاً فوق ظلمك.
هذا ما حدث في مركز عزل المصابين بمرض كورونا في مستشفى الحسين التعليمي الخاص، في مدينة الناصرية بالعراق؛ حيث توفي حرقاً 92 شخصاً وأصيب نحو 20 آخرين، حسب إعلام وزارة الصحة. وحسب ما جاء في البيان، فإن السبب الرئيسي وراء وقوع الحادث، انفجار قناني وخزانات الأوكسجين.
وكالعادة تأتي الحلول الترقيعية الخجولة لإسكات الشارع العراقي الغاضب، قام مجلس الوزراء باجتماع طارئ لمناقشة الحادث والقيام باحتجاز كل من مدير صحة محافظة ذي قار ومدير المستشفى ومدير الدفاع المدني وإدخالهم للتحقيق الفوري لتقصي أحداث الفاجعة، وامتلأت الطاولات بملفات التحقيق التي لا تنتهي، بل تمزق وتُنسى بعد فترة، وهذا في حال كونها فُتحت أصلاً. وهذه هي الحادثة الثانية خلال ثلاثة أشهر من كارثة مستشفى ابن الخطيب.
وتوافد عدد كبير من المتظاهرين الغاضبين مما حدث للتنديد واستنكار هذه الحادثة، لكن ما النتيجة أو الجدوى؟ فكما يقول العراقي بحسرة "شنو الحل؟ الشق كبير والرقعة صغيرة"، ما الحل لهذا الاستخفاف بالمرضى؟ الذين صعدت أرواحهم للسماء لتعانق أرواح إخوتهم ممن ماتوا في حريق مستشفى ابن الخطيب، إلى متى يستمر تفاقم انهيار البنى التحتية وعدم تطويرها وتأهيلها كل هذه السنوات؟ فمنذ 2003 والوضع مأساوي يحتاج إلى تدخل سريع من الحكومة لإعادة الهيكلة والعمل بشكل حثيث ومتسارع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإلا ستلحق بغداد والعراق بمالطة ولن يفيد الأمر "بعد خراب مالطة".
وفي شهادة لأحد الناجين من الحادث يقول: "حاولنا أنا وأخي فتح باب الطوارئ لكنه كان مغلقاً بشكل محكم، رأيت أبي يحترق أمام عيني ولم أستطع إنقاذه، ومركز العزل لم يكن يحتوي على أيّة نوافذ داخل الغرفة". سمعنا ونحن صغار بأن النجار يكون دائماً بابه مخلوع، فما بالك بمستشفى حكومي كامل بدون أيٍّ من إجراءات السلامة المهنية. إلى أي حال وصل بنا الفساد الحكومي والإهمال الطبي وقد تجاوزت الإصابات بمرض كورونا في العراق المليون إصابة، وأكثر من 17 ألف حالة وفاة؟ ولم تتجاوز نسبة الملقَّحين الواحد بالمئة، هل استرخصوا دم الشعب العراقي لهذه الدرجة؟ ألم يكفِهم أن نهشت الحروب من لحمنا؟ ألم يكفِهم هذا اللحم، أم أنهم لابد أن يحرقوا ويكسروا ما تبقى من العظام لإسكات صوت الحق؟ إلى أين يصل الظالم بظلمه؟ ألم يرَ عاقبة الذين ظلموا وأحاطوا الناس بظلمهم؟ أم أن الإنسان لا يتعظ من تجارب غيره؟
إن هذا الإهمال في إجراءات السلامة سيسبب خوفاً شديداً وإرباكاً لعمل المجال الصحي في العراق وسيسبب عزوف الناس عنه، كأن المستشفيات تحولت إلى ساحات حرب تبتلع الشهداء وأصبحت أشبه بالذهاب للمشفى، فإنك ستنال إحدى الشهادتين؛ شهادة الوفاة من كورونا أو شهادة الوفاة جراء حريق، وسيصبح الذهاب للمستشفيات لمن استطاع إليه سبيلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.