تعيش تونس على وقع صراع محتدمٍ بين الرئاسات الثلاث، ألقى بظلاله على الوضع الاجتماعي والاقتصادي وحتى الصحي في البلاد، وعطّل سير دواليب الدولة وعمل عدد من الهيئات الدستورية.
وما يعقّد الأزمة أكثر في تونس هو إصرار أطراف الصراع (رئيس الجمهورية، رئيس البرلمان، رئيس الحكومة) على مواقفهم، وعدم استعدادهم لتقديم أية تنازلات.
صراع لا يُريد أن يتنتهي
أدى الصراع بين رئيسي الحكومة والجمهورية من جهة، ورئيس البرلمان ورئيس الجمهورية من جهة أخرى إلى تعطيل سير دواليب الدولة وعدد من الهيئات الدستورية، كما ألقى بظلاله على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس.
ويقود رئيس الحكومة هشام المشيشي منذ شهر يناير/كانون الثاني من هذا العام حكومة غير منسجمة، يمكن وصفها بأنها حكومة تصريف أعمال، بعد إقالة المشيشي لعدد من أعضائها إثر تعديلٍ وزاري حصل على ثقة البرلمان.
لكن المشيشي وجد نفسه أمام فيتو رئيس الجمهورية، الذي رفض استقبال عدد من الوزراء الجدد الذين تلاحقهم شبهات فساد لأداء اليمين، مُجبراً على مواصلة العمل مع الحكومة التي أقال عدداً من وزرائها في انتظار حل أزمة "أداء اليمين" مع رئيس الجمهورية.
ولم تقف رياح الصراع بين الرؤساء الثلاثة هنا، إذ دخلت هيئة مكافحة الفساد مربع الأزمة، بعد أن أججت إقالة رئيس الحكومة لرئيس الهيئة عماد بوخريص المُقرب من رئيس الجمهورية نار الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية، مُقابل ذلك يرفض رئيس الجمهورية استقبال الرئيس الجديد لأداء اليمين بسبب ما يصفه بإخلالات قانونية شابت قرار إقالة بوخريص، والنتيجة أن الهيئة بقيت دون رئيس حتى الآن.
المحكمة الدستورية بدورها واحدة من الهيئات التي شملها الصراع بين رئيس الجمهورية والبرلمان بقيادة رئيسه راشد الغنوشي، إذ يتواصل الفشل في إقرارها بعد 7 سنوات من المصادقة على الدستور.
وفشل البرلمان في دورته السابقة في انتخاب أعضاء الهيئة الدستورية، إذ يرفض رئيس الجمهورية الآن ختم القانون المعدل في البرلمان لانتخاب أعضاء هذه الهيئة.
وانتهت يوم 9 يونيو/حزيران الآجال الدستورية الممنوحة لرئيس الجمهورية قيس سعيد لختم مشروع قانون تعديل قانون المحكمة الدستورية، والإذن بنشره بالجريدة الرسمية للجمهورية التونسية.
ومنح الدستور لرئيس الجمهورية 4 أيام كأجلٍ دستوري لختم مشاريع القوانين إثر المصادقة الأولى عليها، أو المصادقة الثانية، في حالة ردها منه إلى البرلمان، أو إثر تلقيه رداً من المحكمة الدستورية، والتي تقوم الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين بجزء من مهامها في انتظار إقرارها.
وكانت الهيئة الوقتية لمراقبة مشاريع دستورية مشاريع القوانين قد أبلغت رئيس الجمهورية بمكتوب، بموقفها حول الطعن في مشروع قانون تعديل قانون المحكمة الدستورية يوم 3 يونيو/حزيران 2021، إذ أكدت أنها غير مختصة بالنظر في هذه المسألة.
شلل تام في تونس
من جهته، حذَّر الأمين العام للتيار الديمقراطي غازي الشواشي، في تصريح لـ"عربي بوست"، من حالة الشلل التامة التي أصابت الدولة والبلاد بسبب هذا الصراع"، مشدداً على أن "تواصل الوضع على ما هو عليه سينتهي بانفجارٍ اجتماعي غير مسبوق في ظل الاحتقان الذي يشهده الشارع التونسي".
وطالب الشواشي "أطراف الأزمة والصراع بالتحلي بروح المسؤولية، والتخلي عن التجاذبات السياسية، وعن التعنت في المواقف، لأن الوضع في البلاد لم يعد يحتمل المزيد"، وفق تقديره.
وأكد الأمين العام للتيار الديمقراطي أن "مسؤولية الصراع والأزمة السياسية يتحملها الرؤساء الثلاثة، وإنْ بمستويات مختلفة"، مشيراً إلى أن "رئيس الحكومة مازال مصراً على البقاء في الحكم رغم فشله في إدارة أزمة كورونا، ورغم قراراته الطائشة، ومسؤوليته في تعقيد الأزمة بين رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية، ورفع مستوى الاحتقان في الشارع من خلال صمته عن انتهاكات حقوق الإنسان وعودة آلة القمع من جديد".
وأضاف الشواشي: "بدوره، قيس سعيد مُطالب بلعب دوره التجميعي لكل الفرقاء السياسيين كرئيسٍ للجمهورية، والمرور إلى تقديم حلولٍ ومبادراتٍ للأزمة، وعدم الاكتفاء بالتصريحات والخطابات".
وأشار المتحدث إلى أن "رئيس البرلمان راشد الغنوشي، والحزام البرلماني لحكومة المشيشي لهم الدور الأبرز في تعقيد الأزمة، من خلال تقديم دعم غير مشروطٍ لحكومةٍ فاشلةٍ، وعاجزةٍ عن إيجاد حلول، غير التصعيد مع رئيس الجمهورية".
النهضة.. الكرة في مرمى الرئيس
رغم إقراره بأن الصراع بين الرؤساء الثلاثة فاقم الأزمات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، يُحمّل المستشار السياسي لرئيس البرلمان رياض الشعيبي المسؤولية في تعميق الأزمة لرئيس الجمهورية.
وأوضح الشعيبي في تصريح لـ"عربي بوست"، أن "رئيس الجمهورية مُطالب باحترام الدستور الذي أقسم على الالتزام باحترامه، بداية بالتوقيع على القانون المعدل للمحكمة الدستورية، وقبول أداء يمين الوزراء الذين حصلوا على ثقة البرلمان، حتى تتمكن الحكومة من القيام بعملها، وتجد الحلول للأزمات التي تعيشها البلاد".
وأضاف المتحدث أن "الدستور الذي أقسم رئيس الجمهورية على احترامه وحمايته فصّل وأوضح صلاحيات السلطات التنفيذية والتشريعية، لذلك لا معنى لتدخل قيس في طريقة عمل الحكومة وتشكيلتها، لأنها ليست من صلاحياته الدستورية".
وتابع المتحدث أن "الأزمة السياسية فاقمت الأزمة الصحية والاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها البلاد، ونحن ننتظر من رئيس الجمهورية أن يفي بالتزاماته تجاه الدولة والشعب".
الأزمة السياسية في تونس.. الحوار بلا شروط
وأكد الشعيبي أن "حركة النهضة جدَّدت في أكثر من مرة دعوتها للحوار، وثمّنت مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل لإجراء حوار وطني اجتماعي واقتصادي، لكنه شدد على أن شرط الحركة للدخول في حوار وطني هو أن يكون بلا شروطٍ مسبقة من أي طرف كان"، في إشارة إلى الشروط التي وضعها رئيس الجمهورية للقبول بإجراء حوار، والتي من بينها مشاركة الشباب وإقصاء عدد من الأحزاب بسبب شبهة الفساد.
وأضاف المتحدث: "نحن منفتحون على الحوار لبحث حلول اقتصادية واجتماعية للبلاد، لكن هناك مسائل لا تتطلب حواراً، بل التزاماً باحترام الدستور، مثل المصادقة على قانون المحكمة الدستورية وقبول التعديل الوزاري".
من جهته أوضح الشواشي أنه "لا وجود لحلٍّ لهذا الصراع وللأزمة العميقة التي تشهدها البلاد سوى الجلوس إلى طاولة الحوار، على أن يكون ذلك في أسرع وقت حتى لا تتعمق الأزمة أكثر وينفجر الشارع في وجه الطبقة السياسية.
الصراع يتجاوز رئيس الحكومة
من جهته يرى المحلل السياسي علي القاسمي أن "جوهر الصراع هو بين رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية، كون الغنوشي يسعى إلى إمساك كل الأوراق بيده بعد الانتخابات، فيما يرغب قيس سعيد أن يكون فاعلاً سياسياً في كل القضايا والمسائل، بعيداً عن الصورة النمطية التي تختزل صورة الرئيس في القصر وصلاحياته في تعيين وزيري الدفاع والخارجية".
وأضاف القاسمي في تصريح لـ"عربي بوست" أن "رئيس الحكومة هو جزء من صراع محتدمٍ بين رئيس حركة النهضة ورئيس الدولة، وإن كان يظهر بأنه في صراع مباشر مع قيس سعيد"، مشدداً على أن "هشام المشيشي هو الحلقة الأضعف في هذا الصراع، إذ وجد نفسه في مرمى صراع كبير بين من اختاره لرئاسة الحكومة، وبين من منحه الثقة في البرلمان".
وأكد القاسمي أن "بقاء المشيشي رئيساً للحكومة حتى الآن يعود فقط لتأخر التوصل إلى حل بين الغنوشي وسعيد".