المسيرة في تعريفها هي السير على خُطى واحدة وعلى قلب رجل واحد من أجل مطلب ما أو التعبير عن مشاعر معينة، وهي في أصلها سلمية لا يريد أهلها قتالاً إنما وسيلة لإيصال ما يريدون، والعلَم هو الراية التي تمثل الدولة ويَجمع مواطنيها بكل شعورهم بالانتماء لها.
فماذا عن مسيرة الأعلام في مدينة القدس بالأمس؟
هذا الاحتلال يحتل حتى اللغة، ولا يُخرج الفلسطينيين من بيوتهم فقط، بل يخرج المفاهيم من مُعجَمها! لغوياً وفلسفةً حين تقرأ الكلمات وتسقطها على الواقع وتسأل عن أي مسيرة وهم المسلحون؟ وأي علم وهو راية كيان محتل رفعت على القرى والمدن الفلسطينية المدمرة وعلى قبور أهلها؟ يجوبون شوارع القدس ويحملون علماً لا ينتمون إليه بشيء، تراه ملقى على الطريق بعد انتهاء المسيرة! وكأنه قطعة قماش كان يستظل صاحبها من الشمس فيها، وحين انتهت حاجته منها ألقاها دون أن يربطه بها أي جانب حسي ومعنوي.
مفارقة عظيمة بيننا وبينهم، أن علمنا هو جِلدنا الأول، هل شاهدت إنساناً يُسرع لإنقاذ جِلده من مرمى الرصاصة؟ ترى فتى عمره 10 سنوات يركض ليأخذ علَمه الفلسطيني من يد زميله في المواجهات، ترانا نرفعه في أفراحنا وأحزاننا، في الرسومات والزينة، ندفئ به شهداءنا، ونرتديه في تخرجنا الجامعي وصورنا الشخصية، هو جلدنا الذي لا يخلع.
فكيف لمستوطن جاء إلى بلادنا من دول بعيدة أن يفهم معنى الجِلد وهو عَارٍ؟ وأن يفهم أن هذا القماش شرف لا يرمى على الأرض، بل تُدفع فيه الأرواح؟ كيف سيفهم وهو لا يعرف التراب والحجر ولا يعرف الفداء والجنون من أجل سارية وعلم؟
ولمسيرة الأعلام تاريخ دموي حين بدأت عام 1967 بعد النكسة، إذ يحتفل الصهاينة باليوم الذي سيطر الاحتلال فيه على القدس الشرقية وضمها إلى الجزء الغربي وبذلك أصبحت مدينة القدس كلها تحت الاحتلال، ولها طقوس محددة إذ يجوبون الشوارع بدءاً من شارع الأنبياء ثم إلى باب الخليل، ثم ينقسمون إلى قسمين؛ أحدهما إلى الحي اليهودي، والآخر إلى الحي الإسلامي، ويلتقون جميعهم في ساحة البراق، عِلماً أن هذه المرة تم الاتفاق من قبل المنظمين وشرطة الاحتلال على أنهم لن يدخلوا الحي الإسلامي منعاً لأي اشتباكات مع الفلسطينيين، لكن هذه هي نيتهم منذ البداية؛ الاستفزاز والاشتباك. فمسيرتهم هذا العام تم إيقافها قبل شهر بأمر من غزة حين كانت صواريخ المقاومة الفلسطينية تجرهم إلى الملاجئ خوفاً ورعباً.
لذلك بدؤوا منذ أيام النشر على مواقع التواصل عن المسيرة مع شعارات عنصرية ضد العرب والمطالبة بموتهم والتجهيز ليوم الثلاثاء مع سبق الإصرار والترصد، للاصطدام مع المقدسيين، وتم إغلاق الشوارع والرقص والاستفزاز بالشعارات والسباب حتى أنهم تمادوا وسبوا نبي الإسلام محمداً صلى الله عليه وسلم.
رغم هذا كله، لم يقف أهل القدس صامتين، أخذوا الأعلام وردوا الموقف بالموقف وبدأت الاشتباكات ليصاب أكثر من 27 مقدسياً في ثلاث ساعات فقط!
هي حرب سيادة ووجود، فبعد العدوان الأخير على غزة وإعادة ترتيب المشهد السياسي وأحجار القوة أصر المستوطنون على اختطاف المشهد من حكومتهم الخاسرة محاولين إرجاع العربدة والسيطرة على الشارع المقدسي بعد أن سيطر عليه شباب القدس والداخل المحتل في الأيام الماضية.
كانت الأنظار تتلفت مرة أخرى لتهديدات قادة المقاومة التي أعلنوا بها عن أن أي مساس بالمقدسات سيعيدهم إلى الحرب، وانتهت المسيرة دون أي تدخل عسكري من غزة، لكن القارئ للمشهد يعرف أن التدخل حدث مقدماً، وأن رعب معركة سيف القدس ما زال يلوح على أسوار المدينة.
منذ سنوات كانت تخرج هذه المسيرة بالطول والعرض وتفترش ساحات الأقصى، هذه المرة خرجوا بما لا يزيد عن 5000 شخص فقط وبحراسة مشددة من قِبَل جيش الاحتلال والشرطة، وتم منعهم من دخول الساحات وفض المسيرة في وقتها المحدد بالإضافة إلى تغييرهم مسار الطيران المدني وتجهيز القبة الحديدية خوفاً من حدوث أي مفاجأة! وما هذا إلا دليل على قواعد جديدة فرضتها المقاومة على الساحة.
وفي نهاية يوم المسيرة في منتصف الليل قام الاحتلال بشن غارة على موقع للمقاومة جنوب مدينة غزة فهل هي إنذار لمعركة جديدة؟ أم استعراض و"فرد عضلات" أم الجبهة الداخلية للاحتلال، لاستعادة صورة الجيش الذي لا يقهر في عيون مستوطنيه! ما زالت الصورة غير واضحة.
إن كل ما حدث في يوم مسيرة الأعلام يؤكد أن الاحتلال سواءً كان قوة عسكرية أو مستوطنين مدنيين لا يريد إلا الدماء والحرب، ولن يترك أي فرصة إلا ليشيع فيها أكبر عدد من الشهداء الفلسطينيين، ابتداءً من الأعلام إلى الغارات الجوية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.