اختُتمت في الرابع عشر من يونيو/حزيران، قمة زعماء الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي الناتو، المجتمعين في العاصمة البلجيكية بروكسل أعمالَها، ببيان جاء على لسان الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، بين رؤية الحلف من عدة قضايا، لم تبدأ فقط بالغريمين روسيا والصين، ولم تنتهِ بالتغيير المناخي وتداعياته.
وتطرّق البيان الختامي لروسيا والصين وأفغانستان وإيران وليبيا وأوضاعها غير المستقرة، وسط ترحيب عام من الدول الأعضاء بعودة الحلف على طاولة اهتمامات الولايات المتحدة بعد سنوات ترامب العجاف بالنسبة للناتو، والذي كان يرفع شعار أمريكا أولاً، ويعاني الناتو ظاهرياً من معضلات تتمثل في تأزم العلاقات عسكرياً بين تركيا والولايات المتحدة، على خلفية صفقة إس 400، وبين تركيا وفرنسا على خلفية تلاسن بين الرئيسين، وأزمة غاز شرقي المتوسط، وموقف الإليزيه المؤيد بقوة لليونان وقبرص اليونانية.
الوضع الليبي بين الاجتماع والختام
أكد البيان الختامي للقمة فيما يخص ليبيا، على دعوة الناتو السلطات الليبية لـ"الالتزام بخارطة الطريق وتنظيم الانتخابات في موعدها"، وهذا ما قد لا يحدث نتيجة عديد من التحديات التي لا تبدأ بعدم إنجاز القواعد الدستورية وقانون الانتخابات، ولا تنتهي عند تواجد المرتزقة والقوات الأجنبية والانقسام المؤسساتي.
لكن الاجتماعات الثنائية بين دول محورية في الملف الليبي بيّنت حجم التباين الواقعي في المواقف، وإن كانت بصيغ دبلوماسية ولغة ناعمة، قمة القمم كانت اجتماع الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهنا الحديث حول برنامج منظومة إس 400 ومقاتلات إف 35، والتدخل التركي في ليبيا، وتواجد قواتها هناك، وتأكيد أردوغان على إمكانية سحبه قواته من ليبيا حالَما سمح الوضع بذلك.
ثم كانت قمة جمعت أردوغان بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والحديث حول تعاون محتمل بين البلدين في ليبيا وسوريا، ويظهر التباين السياسي والعسكري في توجه الدولتين، إذ تدعم تركيا قوات المعارضة السورية وقوات الحكومة الليبية، الوفاق، بينما تدعم فرنسا قوات منظمة وحدات الدفاع الكردية بي كي كي في سوريا، وقوات حفتر شرقي ليبيا، ولكن هذا التباين ذاب جزئياً في اجتماع مباشر شعرت فيه تركيا أن بإمكان فرنسا ابتزازها بموقفها من التنقيب عن الغاز شرقي المتوسط، وشعرت فيه فرنسا بحظوة تركية متزايدة في نظر الأمريكان.
البريطانيون أيضاً يرمون بعدسة تركيزهم على الأراضي الليبية، متحدثين دون دبلوماسية عن فاغنر، وضرورة إنهاء تواجدها، إذ إنه وقبل شهرين تقريباً صرح وزير الدفاع البريطاني بن والاس باستعداد المملكة لمواجهة فاغنر في ليبيا تحديداً، كما أنه من أسبوع تقريباً عقدت اجتماعات مكثفة في طرابلس بليبيا مع مسؤولين ليبيين، تم فيها مناقشة آلية إنهاء التواجد الروسي في ليبيا، ثم يغادر ويجري اجتماعاً مع نظيريه الإيطالي والتركي حول الأمر ذاته، ما يؤكد على تواجد ضغط بريطاني على روسيا، وانتعاش في الموقف البريطاني حول ليبيا وإن كان مدفوعاً بالحماسة.
الناتو وليبيا وروسيا
بالتأكيد، إن حلف شمال الأطلسي الذي أُسس لمكافحة التوسعية السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية، ومكافحة روسيا بعد انهيار الاتحاد ليس في أحسن أحواله، ولكن بحسب مراقبين فإن رؤية بايدن ووجود تهديدات صينية روسية مستمرة قد يجمع الفرقاء ويوحد الجهود، على رقعة التصنيف تأتي تركيا بثاني أكبر جيش في الناتو بعد الولايات المتحدة، وبقاؤها في الحلف يعني زيادة في الاستقرار والإشاحة باستخدام القوة بشكل أكبر.
لكن التحديات الكثيرة التي تمثل ليبيا بعداً آخر لها متشعبة ومعقدة، فالتواجد الروسي على السواحل الليبية يمثل تهديداً خطيراً مواجهاً لسواحل أوروبا الجنوبية، وأن إنهاء هذا التواجد يحتاج لعديد من الآليات، منها تثبيت سلطة جديدة في ليبيا، مناوئة للروس، وطردهم دون الحاجة لاستعمالٍ مفرطٍ للقوة، وإذا كانت إدارة الناتو لا تتماهى مع التواجد التركي النظامي والمشرعين على الأراضي الليبية، فإنها من باب أولى لن تقبل باستمرار تواجد الروس، الذين أصبح تواجدهم يتعزز يوماً بعد يوم، بل وآخذٌ في الازدياد.
بحسب تاريخ الناتو فإنه تقريباً لم يحسم إلا معركتين، هما معركة البوسنة وصربيا بعد المذابح الصربية، ومعركته في ليبيا للقضاء على نظام القذافي، لكنه فشل جزئياً في أفغانستان، وعلى حدود أوكرانيا الغربية، لكنه يبقى أداة فعالة تضم تحالفاً قوياً بإمكانه استعمال القوة حيثما أراد، بحماية قانونية وشرعية دولية شبه متكاملة.
في تصوري أن اللهجة التصعيدية ضد روسيا ستستمر، وأن بقاء الأتراك أيضاً سيستمر في ليبيا مادامت تواجدت فاغنر روسيا، وأن خروج روسيا من ليبيا مبدأ لن يتم التنازل عنه أبداً، ولن يسمح الناتو لروسيا بأن تفتح نافذة مطلة من الجنوب على أوروبا، وركيزة جديدة على شواطئ المتوسط في ليبيا بعد سوريا، لكن في الوقت ذاته روسيا بوتن العنيدة ليست روسيا يلتسن، وما حققته من إنجازات توسعية في القرم، واستقطاعها إقليمين من أوكرانيا، وحصولها على قواعد في سوريا تطل على البحر المتوسط، وتوسعات في إفريقيا، أمر لا يستهان به، ويوحي بأن هذه التحركات لم تأتِ اعتباطاً، بل جاءت وفق تخطيط مسبق، مستغلةً تفكك حلف الأطلسي الذي لطالما قيدها، لذا فليس من السهل تخيل الموقف بعد أشهر أو سنوات من الآن، نظراً لتشابك المصالح وتراجع دور القطب الواحد في العالم، وعلو كعب روسيا على الأرض، سواء بقوة التسليح أم بامتلاكها الفيتو السياسي، أو بثروات النفط والغاز التي تبتز بها أوروبا، ومن المتوقع أن تكون هذه التحركات خير سابق لمؤتمر برلين 2، المزمع عقده بعد أسابيع قليلة، والذي سيستكمل مسار برلين 1، الذي نجح فعلياً برسم خريطة الأحداث السائرة في ليبيا اليوم، من تحقيق توازن للقوات ووقف لإطلاق النار وإنهاء الاقتتال وميلاد سلطة تنفيذية جديدة، توحد المؤسسات وتجري انتخابات نيابية ورئاسية أواخر العام الجاري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.