كيف تصبح نبيل الكرد حينما تكبر

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/08 الساعة 14:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/08 الساعة 14:53 بتوقيت غرينتش
المواطن المقدسي نبيل الكرد/ مواقع التواصل

قبل نحو شهرين من الآن شاهدتُ العمَّ نبيل الكرد لأول مرة عبر صورة انتشرت على فيسبوك، التُقطت له أمام منزله الذي انتقل للحياة فيه منذ خمسينيات القرن الماضي في حي الشيخ جراح بالقدس، وضع يديه على الجدران التي لا تشكل حدود منزله فقط، بل ذكريات عمره الذي تخطى السبعين، وعلى الجدران كُتبت عبارة "لن نرحل"، صورة أيقونية لرجل جُسّدت في ملامحه مشاعر كل الفلسطينيين من النكبة إلى النكسة، وأخيراً أوسلو ومرارتها.

تلك الصورة التي توقفتُ كثيراً عندها وعند نظرات الحزن في عيني العم نبيل فيها، رفقة عدد من الصور، شكّلت بداية الشرارة الفلسطينية الأخيرة، وجابت العالم العربي كله، مذيلة بهاشتاغ واضح وبسيط #أنقذوا_حي_الشيخ_جراح الذي دشنه ابناه منى ومحمد، للتعريف بقضية سكان الحي المعرضين للتهجير القسري من منازلهم ليسكنها المستوطنون الصهاينة "هؤلاء الذين سيسرقونها لأنهم إن لم يفعلوا ذلك سيأتي آخرون لسرقتها".

لكن قبل أن أسرد لك القصة أريد أن تعلم أن هذا الهاشتاغ البسيط أنقذ أهالي الحي من التهجير، ولو مؤقتاً، وهو الضمان لبقائهم في منازلهم مستقبلاً، وأن هذا الهاشتاغ قد أشعل حرباً، وانتصر لقضية، ودعني أيضاً صديقي القارئ أدعوك للتدوين عليه.

قبل نحو عشر سنوات من الآن بدأ محمد ومنى طفلا العم نبيل نضالهما للتعريف بقضية الحي، استخدما كاميرا صغيرة اشتراها لهما والدهما، ليصورا بها كل ما يدور حولهما في الأرجاء من اعتداء المستوطنين على منازل السكان وتدمير محتوياتها، وبلغة إنجليزية متقنة تعلمها محمد في مدرسته الخاصة، التي أرسله إليها العم نبيل، بدأ يخاطب العالم بلغته ليحكي لهم عن المنزل الذي بناه أبوه على أرض جدته، وكيف سيطر عليه الدخلاء ودمروا محتوياته.

وبهذه الكاميرا أيضاً وثّق الطفلان "شقاوتهما" ولحظات مناكفتهما للمستوطنين، فعلى غير العادة لم يفضل محمد ومنى اللعب مع أطفال الحي، بل اللعب بأعصاب المستوطنين، خاصة أثناء أدائهم طقوسهم الدينية في غرفة صغيرة بُنيت على أنقاض أحد منازل الشيخ جراح، "تلك الهواية بقيت المفضلة لمحمد ومنى حتى بعد أن كبرا"، ولأن أبيهما هو العم نبيل الكرد، فعلى غير العادة بدا سعيداً للغاية بصوت طفليه المرتفع في مواجهة الدخلاء، غير عابئ بأية مخاطر قد يواجهها، بل شجعهما على ذلك قائلاً "تخافوش"؛ الكلمة التي ورثتها منى بعد ذلك.

تركهما الأب على الطريق إذاً، وشكلت كلماته البسيطة إطار اللوحة التي يسعيان لرسمها، ثم كبر محمد ومنى، وتجاوزا العشرين من عمرهما، وامتلكا أدوات أكثر وخبرة أكبر ومعرفة بالعالم من حولهما، وطرق التواصل معه، والتأثير عليه، استغلا حبهما للتصوير وشجاعة المواجهة لـ"يمغصا" بطن ورأس المحتل بحملات نوعية سلمية انتشر صداها في الداخل الفلسطيني كله، خاطبا العالم بلغته، وجمعا أهالي الحي حولهما، تصدّرا المشهد بلا خوف، وتقدما الصفوف غير عابئين بالعواقب "وهذا طبيعي بالمناسبة، فمن وَاجَه المحتل طفلاً لن يخشى مواجهته شاباً"، ليضطر المحتل في النهاية أن يعلن علناً أمام العالم أجمع هزيمته أمامهما، باعتقال منى واستدعاء محمد، وهنا تغير المشهد تماماً.

الأب السبعيني هو من وقف أمام الكاميرا هذه المرة وتصدَّر المشهد، فقد تعلَّم العم نبيل الكثير أيضاً من نجليه، دعا أصدقاءهما وأهالي القدس للتجمهر أمام مركز الشرطة، ليقلب الرجل العالم رأساً على عقب؛ بحثاً عن حرية أبنائه قبل أن يقتبس منهما فكرة الاعتصام ويحمل كرسيه البسيط جالساً عليه أمام مركز الشرطة، عاقداً العزم على عدم المغادرة من دونهما.

مشاهد الأب والأبناء شكَّلت الإنجاز الأعظم في حياة العم نبيل، تلك الحياة التي قد يظن أحدهم أنها مرت مرور الكرام دون أثر، فالرجل السبعيني لا يملك منزلاً فارهاً، ولا سيارة أحدث موديل، لكنه امتلك ما هو أعظم وأهم؛ امتلك الأبوة كما يجب أن تكون، وأهداها بكل حب لنجليه لتنعم فلسطين كلها اليوم بأثر العم نبيل وإنجازه الفردي "محمد ومنى"، إنجاز لا يمكن تقدير قيمته بطريقة مادية، ولا يمكن استبداله بحساب بنكي أو تركة بالعملة الأجنبية الصعبة.

وأثناء متابعتي لقضية حي الشيخ جراح فكرت كثيراً في باقي الآباء، هؤلاء الآباء الذين يربون أبناءهم على مبدأ ثابت: "امشِ جنب الحيط"، "ابعد عن الشر وغنيله"، ماذا لو كان ربَّى العم نبيل الكرد ابنيه بهذه الطريقة؟ أي ثمن كان سيدفعه أهالي الشيخ جراح، بل أهالي القدس كلهم، وكيف كانت ستُحرم المقاومة من شرف الانتصار الذي بدأ من هناك، وكم عاماً آخر كان سينتظر آلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية، دون أن تكون قضيتهم محل تفاوض أثناء الوساطة لوقف إطلاق النار؟ فكرتُ قليلاً، ثم وصلت لنتيجة واضحة: لقد كان العم نبيل الكرد هو البطل الأول للهبَّة الأخيرة في كل فلسطين، لقد كانت الأبوة الحقيقية التي امتلكها هي الإنجاز الأعظم في حياته، وأغلى ما يمكن أن يقدمه أب لأطفاله ووطنه.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمر عادل
صحفي مصري
حاصل على بكالريوس الإعلام
تحميل المزيد