حلَّ العيد بالبشرى بعد أن تأخر الفرح أياماً جرَّاء القصف، وانتصرت غزة وجيرانها أمام القذائف، ومهما زادت الخسائر البشرية والمادية بحسب المقارنة بين الجانبين، فالمكاسب المعنوية ارتفعت بقلوبنا حد السماء، فمنذ متى فُت أيدي الصهاينة وجرَّوا وراءهم خيبات الأمل ومساعي المحتل؟ منذ عقود مضت من بداية الاحتلال كما حدث الآن في غزة؟! هذا نصرٌ مبينٌ وجولةٌ رابحةٌ تتبعها جولات، ونقطةٌ من بداية السطر تفصل الماضي عن المستقبل، وتختم جملةً دقيقة المعنى، محكمة التكوين، عنوانها الثابت: نحن الأرض والأرض لنا.
الدولة والدين والسياسة
يقول البروفيسور كولن تشابمان: "يصعب أن نتخيل وضعاً آخر في العالم تتشابك فيه السياسة والدين بهذا الشكل، وتتمتع فيه الكتابات المقدسة بهذا التأثير العميق على العمل السياسي"[1].
يصر الإسرائيليون على أن يبقى كيانهم بلا أي حدودٍ رسميةٍ، وكحالةٍ شاذةٍ لا مثيل لوجودها في العالم، فكل ما يعقد من المفاوضات والمؤتمرات وما يتردد من خيار: الدولتان أو الدول الثلاث أو الدولة الواحدة، هو انعكاس لعدم قدرة أي زعيم إسرائيلي -حتى لو كان زعيماً علمانيّاً- على تجاوز المنطلقات الدينية في التعامل مع العرب ومع الأرض ومع المقدسات الفلسطينية. وعلى أرض الواقع يبدو التشابك بين الديني والعلماني في الكيان مربكاً للكثيرين الذين يخلطون بين "دينية" الدولة و "دينية" الصراع.
ومن لطائف الله في أحداث فلسطين الراهنة، رغم شدة الموقف وهيبته، أنها أشعلت فتيل الغضب الذي أطفأه الخوف والكبت داخل الشباب العربي، عموماً، على اختلاف بلدانهم وعقائدهم وتوجهاتهم. الشباب الذين غرقوا، طيلة سنوات، في وطأة مشاعرهم وقضاياهم الفردية كالاكتئاب والوحدة وهموم الدراسة وغياب الأحبة وتردي الأحوال، توحدت شوكتهم، فجأةً، أمام قضيةٍ أكبر وأعظم وأشمل من مجموع قضاياهم، فجعلت هم الواحد هم الجميع، وحمل الكتف حمل أكتاف، وفرقت الدمع أشياعاً على الأعين فلا يفيض من عينٍ واحدةٍ. وبهذا تتلاشى أوجاع المرء داخل نفسه، ولو قليلاً، إذ أبصر أوجاعاً أشد وأعمق: أوجاع الأمة.
وهذا ما ظهر خلال الأحداث الماضية، حين انتفض الشباب من جميع الأمصار والأقطار، فأخذوا في الكتابة والنشر والتصوير وتفاعلوا مع القصف يوماً بيومٍ، وساعة تلو ساعة، وبدأوا في حملات المقاطعة على وسائل التواصل ردّاً على التضييق والحظر المستمر على المحتوى العربي الفلسطيني، ودشن المتصدرون عبر صفحاتهم الشخصية صوراً ومقاطع مباشرة مع الشباب المقاوم من قلب القدس وغزة حتى تمت الهدنة المؤقتة. صار الشباب العربي جسداً واحداً لا انفصال له، لا فرق بين مصري وفلسطيني وسوري ويمني، ولا فرق بين غزة وحلب وبيروت وبني غازي، كل الأقطار في البلاء واحد، وكل الدم العربي طاهر، وكلنا اليوم فلسطين.
فلسطين ليست "تريند"
في كتابه "مكان بين الأمم" يضع بنيامين نتنياهو حلّاً أمام خشية اليمين اليهودي من تكرار تجربة الصليبيين حين تقلصت دولتهم رويداً وتلاشت برحيل آخرهم فيقول: "إن من شأن موجات هجرةٍ جماعيةٍ أن تضع نهايةً للحلم العربي برؤية انهيار دولة اليهود كما انهارت دولة الصليبيين التي ظلت تصغر وتتقزم حتى تلاشت نهائيّاً، ستكون مثل هذه الهجرة اليهودية خطوةً حاسمةً نحو تحقيق السلام. إن وجوداً ديموغرافياً يهودياً قوياً إلى جانب السيطرة على المنطقة الجغرافية المطلوبة لضمان أمننا، سيقنعان العالم العربي بأن وجود إسرائيل أصبح حقيقةً تاريخيةً ثابتةً"[2].
على مدار التاريخ الاستعماري، كُتبت آلاف الدراسات وأُلِّفت مئات الكتب التي تتكلم عن دوافع الاستعمار ومخططاته الداخلية وأهدافه القريبة والبعيدة، وسماته اللازمة التي لا تنفك عن أي استعمار مهما اختلفت دوافعه، فكان التدمير والتخريب والإذلال والتنكيل والإهانة هي رسائل المستعمر إلى من يحتل، وبذلك يصبح العامل المشترك بين أغلب المستعمرين هو إيقاع أكبر قدر من البطش والأذى بالشعوب المحتلة لتسلب آخر أنفاسها ببطءٍ، وتفقدها القدرة على الصمود ثم الرضوخ تحت عصا المحتل وقوانينه. في عام 1843م كتب الضابط الفرنسي مونتانيك: "يجب إبادة كل من لا يأتي متذللاً تحت أقدامنا كالكلب"، ثم أحرق الجنرال بيلسييه عام 1845م آلافاً من العرب خنقاً بالدخان في جبال الضهرة لأنهم لم يأتوا متذللين كـ"الكلاب" كما أرادوا[3]، وأمام الكنيست وقف مناحم بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق قائلاً: "ما الفلسطينيون إلا حيوانات وبهائم تمشي على قدمين"[4].
هكذا يسقط القناع عن وجه المستعمر، فيحتل ما ليس له حق فيه من الأراضي وينهب خيراتها ويشرد مواطنيها، وهكذا يتعامل الكيان الصهيوني الآن -ولطالما فعلوا- مع فلسطين وشعبها؛ يُطلقون الشرطة ويعتقلون الشباب ويمنعون المصلين من دخول الأقصى، ولا يتوانوْن عن إظهار وحشيتهم التي عهدناها منهم بدءاً بإخلاء وتهجير أصحاب الأرض الأصليين من منازلهم في "حي الشيخ جرَّاح" وغيره من المناطق، نهاية بقذائف الطائرات التي تمطرها على قطاع غزة.
لكن على النظير لم يتكفل أحد بالبحث عن دوافع مقاومة الاحتلال، لماذا؟ لأنه ببساطة لا يوجد دافعٌ واضحٌ للمقاومة سوى الاحتلال نفسه: تسقط بالتحرير، وتستمر بوجود المحتل!
والغريب والعجيب أنه مع تتابع العقود وتواتر السنين على وجود الكيان المحتل على أرض فلسطين، والمجازر التي أحدثها، ظهرت بشائر الخطاب العربي الدبلوماسي الذي تكيف مع المحتل بصفته عنصراً ثابتاً على الأرض، وجزءاً أصيلاً من تكوين شعبها، فلم يعد يستدعي رد فعل تجاه استعماره، بل على النقيض، أصبحت المقاومة الشعبية الدافعة لهذا المستعمر، في نظرهم، فعلاً ابتدائيّاً يحمل معنى الإرهاب والتطرف، وعليها تقديم ذرائع بديلة لأفعالها غير ذريعة الاحتلال. هنا انقلبت الموازين، واختل التقويم، فأصبح المواطن الأصيل محتلاً والمحتل مواطناً، وصارت مقاومة المقاومة هي شعار المحتل، ولن يتوقف عدوان المحتل حتى تتوقف المقاومة!
من هذا المنطلق المتجذر، والحقائق التاريخية الجلية، إن كانت الغاية اللقطة وتصدر "التريند" والهدوء بعد الجولة الأولى، فقد نلنا ما أردنا، وإن كانت في نصرة إخواننا أمام المحتل، فالحرب سجالٌ لا تنتهي، كرٌّ وفرٌّ، والمقاومة بالدعاء والتبرع والنشر والكتابة لا فكاك عنها، كما هي باللثام والكوفية والحجر وما توفر من وسائل. المحتل ماثلٌ أمامنا الآن يتربص بأهل القدس، بعد أن هدأت العاصفة وتنفس المرابطين في غزة الصعداء، فلا فرق عنده بين مدينةٍ وأخرى، وبين فلسطينيي اليوم أو فلسطينيي 48؛ كلهم سواء أمام البندقية والقذيفة.
● المراجع
[1] أرض الميعاد لمن؟ تأليف كولن تشابمان، ص 528.
[2] مكان بين الأمم.. إسرائيل والعالم، بنيامين نتنياهو، ص 330.
[3] الاستعمار الكتاب الأسود (1600 – 2000م)، مارك فرو، ص 507.
[4] تربية العنصرية في المناهج الإسرائيلية، ص 74.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.