وثّقت السلطات الإسبانية أشرطة فيديو عديدة تُظهر جنودها في مهمات إنقاذية لمهاجرين مغاربة وأفارقة منحدرين من جنوب الصحراء، من الواصلين إلى السواحل التابعة لمدينة سبتة المغربية الخاضعة للحكم الذاتي في إسبانيا، إلا أن للقصة وجهاً آخر لم يُرد له الظهور.
وفي سياق تغلب عليه التوترات الدبلوماسية بين السلطات المغربية ونظيرتها الإسبانية على خلفية استقبال إسبانيا زعيم جبهة البوليساريو الانفصالية، تدفق الآلاف من المواطنين المغاربة، بينهم مئات القاصرين، إلى جانب مهاجرين أفارقة جنوب الصحراء إلى مدينة سبتة.
وتعرض شباب وقاصرون مغاربة ممن حاولوا الوصول لمدينة سبتة الخاضعة للسلطات الإسبانية لوابل من الرصاص المطاطي إلى جانب القنابل المسيلة للدموع، الوضع الذي وثّقته قنوات تلفزيونية عالمية وناشطون بمجال حقوق الإنسان.
"عربي بوست" وصل إلى شباب مغاربة تعرضوا لإصابات بعضُها بليغ، منها ما أودى بحياة شاب في مقتبل العمر يدعى صابر عزوز، كان يقطن بمدينة الفنيدق المغربية المجاورة لمدينة سبتة، حين كان يحاول العبور صوب الضفة الأوروبية.
هل قتل الإسبان مغربياً؟
"قتلوا شقيقي، ظهرت على ملابسه بقع دم حين أخرجوا جثته من البحر، حتى أنهم دفنوه في سبتة دون موافقتنا"، يقول يوسف عزوز، شقيق الفقيد صابر عزوز، متحدثاً باسم الأسرة المكلومة التي تتهم الحرس المدني الإسباني بقتل ابنها الشاب البالغ من العمر 20 عاماً بشكل متعمد.
وعند سؤاله، عما يجعله واثقاً من كون صابر توفي مقتولاً، أكد يوسف لـ"عربي بوست" أن "صوراً وأشرطة فيديو توثق إلقاء الجنود الإسبان لمهاجرين من على الصخور بغية إرجاعهم صوب البحر أظهرت شقيقه بينهم".
يقول شقيق الضحية الراحل: "تعرفت على صابر من خلال بنيته الجسدية والملابس التي كان يرتديها آخر مرة شاهدته فيها، كان هناك قبل أن يخرج جثة".
بالنسبة لمحمد بنعيسى، رئيس "مرصد الشمال لحقوق الإنسان"، والذي يشتغل في مجال الهجرة، فإن "استعمال السلطات الإسبانية العنف تجاه المرحوم صابر عزوز يُعدُّ انتهاكاً للاتفاقيات والمواثيق الدولية والأوروبية لحقوق الإنسان، وتطوراً خطيراً في التعامل مع المهاجرين والهجرة بجنوب البحر الأبيض المتوسط".
بنعيسى الذي تحدث لـ"عربي بوست" طالب بكشف حيثيات ما اعتبره "القتل المتعمد لمهاجر غير نظامي أعزل يُصارع أمواج البحر من طرف السلطات الإسبانية بالمدينة المحتلة"، داعياً المنظمات الحقوقية الدولية للضغط على إسبانيا من أجل احترام المواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان في ما يخص احترام حقوق المهاجرين غير النظاميين.
الوداع الممنوع
أسرة صابر المفجوعة في ابنها البكر تعيش مأساة مضاعفة حين تم دفنه دون وداع ودون إلقاء نظرة أخيرة.
بنبرة حزينة يقول يوسف شقيق الضحية: "تم دفن أخي بسرعة فائقة وغريبة بسبتة، لم نودعه ولا حضرنا جنازته، حتى أنهم أبلغونا بطريقة متعجرفة أنهم سيقومون بدفنه هناك شئنا أم أبَينا (بغيتوا ولا كرهتوا)".
أفراد الأسرة تلقوا خبر وفاة ابنهم بعد يومين من اختفائه المفاجئ، ذلك أنه لم يخبر أحداً بتوجهه صوب السياج الحدودي، وظل هاتفه يرنُّ قبل أن يصبح خارج الخدمة، إذ تكفل مغاربة يقطنون داخل مدينة سبتة بتجهيز جنازته ودفنه في مقبرة إسلامية.
يقول يوسف: "أخي ضُرب من طرف الحرس الإسباني ودُفع قصراً صوب البحر من جديد قبل أن يخرج جثة هامدة وعلى ملابسه أثر دماء، نطالب بفتح تحقيق وبإخراج الجثة من قبرها وتشريحها وإعادة الحق لأصحابه وتحديد المسؤوليات".
عودة من الموت
وإن كان صابر فقد حياته أثناء هذه المغامرة غير محسوبة العواقب، فالشاب أيوب متوكل نجا بأعجوبة من موت محقق بعد أن اخترقت رصاصة مطاطية منطقة أسفل العنق على بُعد سنتيمترات قليلة من الوريد.
"وُلدت من جديد، وكُتب لي عمر وحياة جديدان"، هكذا تحدث أيوب البالغ من العمر 27 عاماً بصعوبة لـ "عربي بوست"، فإلى جانب آلام جسده المُبرحة، يشتكي أيوب من نفسيته المتدهورة قائلاً: "أعاني كوابيس سيئة وأرق كبير، وحتى إذا نمت قليلاً أصحو فزِعاً وأنا أحس الرصاصة اخترقت جسدي من جديد".
ولم يكن يتوقع الشاب القادم من مدينة الدار البيضاء بعد علمه بتخفيف الإجراءات الأمنية والسماح لآلاف الراغبين بالهجرة غير الشرعية بالمرور، ولم يتوقع أن يقدم الحرس المدني الإسباني على تعنيفهم بالعصي، فما بالك بالرصاص والقنابل المسيلة للدموع.
صدمة أيوب وشقيقه زكرياء وصديقهما من الوضع المتوتر بعيداً عن السياج الحدودي للمدينة التابعة لإسبانيا بزهاء 300 متر، زاد من حدتها الدماء المنسكبة بعد الإصابة والألم وبداية بفقدان أيوب لوعيه، "أخبرني شقيقي زكرياء أني رفعت أصبعي للشهادة قبل أن تتدخل السلطات المغربية وتنقلني على وجه السرعة صوب المستشفى".
أيوب أصيب على الأراضي المغربية ونقل رفقة آخرين صوب مستشفى مدينة تطوان (شمال المغرب) حيث تلقى الإسعافات الأولية، وتم توجيهه لاحقاً صوب طنجة (أقصى شمال المملكة) بسبب خطورة وضعه الصحي.
الأطفال ليسوا استثناء
أطفال مغاربة مهاجرون لم يسلموا بدورهم من الرصاص المطاطي، وزهير الزياني البالغ من العمر 15 سنة واحد منهم.
يحكي والده لـ"عربي بوست" ما تعرض له الطفل القاصر على يد قوات مسلحة كانت تحرسه رفقة مئات الأطفال الآخرين بالصليب الأحمر الإسباني، "خلال اليوم الأول زوّدوهم بالطعام والماء، إلا أنهم تعرضوا للتجويع خلال اليوم الثاني، ما حدا بابني زهير إلى محاولة الفرار من أجل العودة للبيت وحين اعتلى الجدار أصيب بطلق ناري اخترق فخذ رجله".
يعاني زهير جروحاً بليغة واختراقاً لمسافة ستة سنتيمترات وفق تقارير طبية، كما يعاني الرُّهاب ليلاً وصدمة نفسية عميقة، وفق ما أكده والده مصطفى الزياني، مؤكداً حاجة زهير إلى العناية الطبية العضوية والنفسية، ومطالباً المسؤولين المغاربة بالاهتمام بابنه.
حين لا ينفع ندم
"محاولة انتحارية" هكذا سمى أيوب مغامرته التي قادته نحو الشمال، قائلاً: "لو خطر ببالي أن السلطات الإسبانية ستكون عنيفة وتستعمل الرصاص، ولو بنسبة ضئيلة، لما سافرت ولا غامرت بحياتي، لن أعيد التجربة مرة أخرى وسأعمل على الهجرة بطريقة شرعية دون سواها".
أما يوسف، أخو صابر عزوز، فختم كلامه بأسى كبير مؤكداً أنه ما كان ليترك شقيقه يغامر بحياته، ولو اقتضى الأمر أن يتبعه ويخرجه من مياه المتوسط عنوة، لكنه لم يعلم بنية صابر ولا ما أقدم عليه.