كان من المفترض أن أسلم هذا المقال قبل منتصف ليل الأربعاء الماضي. حزيناً ومكتئباً خلف شاشة اللابتوب كنت أتابع الأخبار، أتنقل بين الصور ومقاطع الفيديو المصورة، أبكي، أكفكف دموعي، أرى لقاءً مع مواطن فلسطيني شجاع، يقول للمراسل: "بدهم يخوفونا بالصاروخين اللي ضربوهم هدول!"، ثم يسب ويلعن هذا الكيان الصهيوني المحتل، أضحك لهذا الرجل اللامكترث، أقصد: لهذا الرجل الحر الأبيّ الواثق.
أكتب وأمسح، أكتب وأقرأ وأمسح، أكتب وأقرأ وأعدِّلُ ثم أمسح، لأربع ساعات كنت أحاول أن أقولَ شيئاً، شيئاً أعرفه بالفعلِ وأومن به، شيئاً أريد أن أصرخه لأنني سئمتُ كِتمانه، لكنه يرفض الخروج بأي ثمن، مخاضٌ عسِر.
يقف أمامي "أحمد" و"نانا" على أطلال بيتهما، وبيدهما سمكة هي كل ما استطاعوا استنقاذه من الدار. طفل مفجوع، يُفلت أيادي القوم وينادي أباه الشهيد المحمول على الأعناق "يابا.. يابا.. الله يسهل عليك يابا"، ويقطِّعني بكاؤه تقطيعاً. عمارة سكنية أعجزني عدُّ طوابقها، تخرُّ على رؤوس ساكنيها. بعدها أقرأ نعياً لشهداء عائلة أبوعوف، الأب والأم والابن وزوجته وأطفالهم والعمة وأحفادها وأحفاد العم، أربعة عشر شهيداً من عائلة واحدة، جميعهم ماتوا.. جميعهم!
قرأت أيضاً عن الأخوين اللذين قرر أحدهما أن يعطي اثنين من أولاده لأخيه ويأخذ هو بدوره اثنين من أبناء أخيه، حتى إذا حضر أحدهم الموت قصفاً، بقي بعض ذريته، فلا تندثر. آلمتني تلك الصور وغيرها حدّ الاغتمام والبكاء، حدّ الضجر -وقتها- أيضاً؛ لأنها حالت بيني وبين كتابة سطر واحد، مما دفعني إلى اعتذارٍ متأخرٍ عن كتابة المقال.
ولأن الكتابة بالنسبة لي أقرب ما تكون إلى وصفِ لوحةٍ في أحيان كثيرة؛ اكتشفتُ أن جميع اللوحات كانت ناقصة، كل تلك المشاهد غير مكتملة، هنالك الدمار والدمّ، نعم، هنالك القصف والأشلاء، هنالك الصراخ والفقد والبكاء، لكن ركناً أصيلاً من تكوين اللوحة والمشهد لم يكن موجوداً، ولم يخطر ببالي أنه بهذا القرب، وتلك الألفة، وهذا الوضوح، وتلك الحتمية، إلا بعد انتهاء المهلة التي حددها "أبوعبيدة" الناطق العسكري باسم كتائب القسّام، والتي انطلقت على إثرها الأفراح والاحتفالات في غزة والخليل والقدس وفي فلسطين كلها، وهو ما يعني رضوخ المحتل الغاصب، وامتثاله لشروط المقاومة الباسلة. كان الركن الغائب هو النصر.
هذا النصر الذي من شأنه أن يمنع اقتحام المسجد الأقصى، وأن يوقف طرد أهالي حيّ الشيخ جرّاح، ويبقي على أكثر من 5 ملايين مستوطن في الملاجئ وإغلاق مطاراتهم، نصرٌ حققته الصواريخ المصنعة يدوياً على حساب القبة الحديدية، نصرٌ أحرزه المقاتلون المرابطون في الخنادق على الفئران المسلحة الخائفة. نصرٌ جعل إسرائيل تقف طويلاً على رجلٍ واحدة، في انتظار ما سيقوله الملثَّم أبوالكوفيّة "أبوعبيدة"، نصرٌ في جولة، وغداً بإذن الله في المعركة كلها.
الآن باتت كل اللوحات مكتملة، صارت جميعها قابلة للحكي والسرد والتصديق، الآن -بعد أحد عشر يوماً عصيباً- يمكن أن نكتب بلا ندبة ولا تباكٍ ولا غصَّةٍ في الحلقِ أو شوكةٍ في القلم، الآن يمكن أن نكتب ونكرمش الأوراق ونرميها، لا لعجزٍ أو قلة حيلةٍ أو شكٍ، فقط لأن دموع النصر أكثر شوقاً من أن تستقرّ في العين، وأغزر من أن تحملها المحاجر، فاستقبلتها الأوراق وحملتها. الآن حظيت كل الحكايات بخاتمةٍ لا مثيل لها، وغزة اليوم في عيد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.