يشاهد الأطفال الذين يخوضون الحروب احتراق وتدمير منازلهم، وقد يرون مقتل والديهم وذويهم وأصدقائهم، وقد يتعرضون للإكراه على الهروب والنزوح والتشريد فراراً من إطلاق النار والقتل والاستهداف.
الأطفال هم الفئة الأكثر تضرراً من الحروب
كشفت وكالات الإغاثة العالمية بحسب APA، أن المدنيين يمثلون ما بين 85% إلى 95% من الذين تضرروا أو قُتلوا بسبب النزاعات المسلحة والحروب في العصر الحديث، ويشكل الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً حوالي 50% من تلك الفئة.
وتمتلك الحروب والنزاعات المسلحة تأثيراً مدمراً على الصحة العقلية للسكان المتضررين من مختلف فئاتهم العمرية، ويعد اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب أو ما يعرف بـPTSD أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً في أعقاب الحرب عند البالغين والأطفال على حدٍّ سواء.
ويصيب هذا الاضطراب النفسي ثلث الأشخاص المعرّضين بشكل مباشر لتجارب الحرب المؤلمة، إذ يعتبر التعرّض للأحداث الصادمة من أهم عوامل الخطر في هذا السياق.
ومع ذلك، لا تقتصر تبعات الحرب الأليمة على الأطفال في آثارها النفسية والعقلية فحسب، ولكنها تشمل مجموعة واسعة ومتعددة الأوجه من التبعات التي تضر بالعلاقات الأسرية وعلاقات الطفل بأصدقائه ودائرة الشخصيات التي يتأثر بها، وكذلك بالنسبة إلى أدائه المدرسي وتطور ونضج شخصيته، بالإضافة إلى تأثُّر نظرته العامة للحياة.
الحرب تؤثر على حياة الطفل بشكل كامل
لفهم تداعيات نمو الطفل في بيئة الحرب وما بعدها يتعين الأخذ في الاعتبار العواقب المباشرة للحرب على الطفل، وكذلك المتغيرات في البيئات القريبة والبعيدة منه، بما في ذلك الأسرة والمجتمع.
وتؤثر الحروب الحديثة بشكل حصري تقريباً على البلدان منخفضة الموارد، وبالتالي ترتبط عادةً بعدد من عوامل الخطر على مستويات بيئية مختلفة.
على سبيل المثال: الفقر المدقع ونقص الموارد لتوفير الرعاية الصحية وانهيار النظام المدرسي، فضلاً عن زيادة معدلات البطالة والعنف الأسري والمجتمعي.
ويكون الأطفال حسّاسين بشكل خاص لمثل هذا التراكم من الضغوطات.
وفي بحث نشرته مجلة World Psychiatry للصحة النفسية عام 2018، اتضح أن هناك دليلاً كبيراً على وجود علاقة بين نسبة التعرض للحرب وتبعاتها، وكمية الضغوطات التي يعاني منها الأطفال وتعيقهم في مجالات التكيُّف المختلفة على مدار حياتهم فيما بعد.
ويشمل ذلك قابلية صحتهم العقلية والجسدية للتعافي من متغيرات الحياة الطبيعية، وقدراتهم الشخصية، سواء على التحصيل الأكاديمي أو في بناء العلاقات الاجتماعية والحفاظ عليها.
الحرب قد تجعل دور الأسرة معكوساً للأطفال
الأسرة أيضاً تلعب دوراً رئيسياً في تفادي عوامل الخطر وحماية الطفل من عوامل البيئة المختلفة في هذه المرحلة العمرية.
ورغم ذلك ترتبط الحروب بمستويات مرتفعة من العنف الأسري ضد الأطفال، فضلاً عن زيادة معدلات العنف الزوجي.
كما يساهم العنف المرتبط بالحروب والنزاعات الأسرية بشكل خاص ومستقل في إصابة الأطفال بالأمراض النفسية والاضطرابات، وهذا يشمل اضطراب ما بعد الصدمة وأعراض الاكتئاب، بالإضافة إلى المشاكل السلوكية المختلفة.
ووفقاً للبحث السالف ذكره، ينبغي هنا الوقوف على سؤال محدد: كيف يرتبط التعرض للنزاعات والحروب بزيادة معدلات العنف وسوء معاملة الأطفال؟
وبناءً على تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة UNICEF، تكمن المشكلة على وجه التحديد في الآثار المتوارثة بين الأجيال.
ويعني هذا أن صدمة الوالدين وتعرضهم للتجربة الصعبة من فقد وخسارة وتدمير وفقدان للمأوى ومصدر الدخل والأمان وتهديد الحياة والسلامة، كل ذلك يؤدي إلى تراكم المعاناة النفسية لديهم وانتقالها بالتبعية لذويهم.
وتشير المنظمة إلى أن التعرض للعنف المنظّم والأمراض النفسية والعقلية المترتبة عليه يعمل بمثابة محفز للعنف المنزلي وسوء معاملة الأطفال. إذ قد تساهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، مثل التهيج والاندفاع والغضب، في ارتفاع مستويات إساءة معاملة الأطفال وضربهم.
تبعات الحروب على سلوكيات الطفل وسماته الشخصية
يعد الأطفال الذين يكبرون في خضم الحروب والنزاعات المسلحة التي تهدد الحياة هم الأكثر عرضة للإصابة بمشاكل سلوكية صعبة مرتبطة بصدماتهم، مثل التهيّج العصبي ونوبات الغضب الشديدة.
وعادة ما يؤدي تضرر صحة الأطفال النفسية والعقلية إلى خلل وظيفي يعرقل قدرتهم على الأداء الجيد في المدرسة، أو القيام بالواجبات المنزلية، أو حتى الانخراط في العلاقات الاجتماعية.
وتساهم كل هذه الصعوبات في جعل الأطفال المصابين بصدمات الحروب أكثر صعوبة في التعامل مع والديهم وفي عملية التربية، وذلك في الوقت الذين يقوم فيه الآباء أنفسهم بتطبيق استراتيجيات أبوية أكثر عنفاً وإكراهاً بسبب تجربتهم المؤلمة في خوض الحرب.
ولتأكيد هذه الفرضية، وجدت دراسة حديثة ذكرها بحث مجلة World Psychiatry السالف ذكره، أن أطفال أسر الناجين من الحروب في سريلانكا تعرضوا أكثر من غيرهم لصدمات جماعية وأمراض عقلية تتسبب بدورها في ممارسة الأسرة مزيداً من العنف وسوء المعاملة بحقهم، حتى بعد منح الآباء الاستشارة والخدمة النفسية اللازمة لعلاج صدمات الحرب لديهم.
وقد ثبت أن الأطفال الذين تعرضوا لسوء المعاملة الأسرية بعد النجاة من الحروب أو في أثنائها، كانت لديهم احتمالية أكبر في التعرض اللاحق للعنف المجتمعي أيضاً.
التأثير المباشر للحرب على الأطفال
1- وصمة العار والتمييز: غالباً ما يتم وصم الأطفال المرتبطين بفترات الحروب والنزاعات بتلك الفترات فيما بعد خلال حياتهم. وفي الوقت نفسه، قد تمنع البيئات المعادية بعض أطفال الأقليات العرقية من الذهاب إلى المدارس، كما تمنع الآباء من كسب المال لإعالة أطفالهم.
وبحسب APA، يمكن أن يؤدي التمييز والهجوم من هذا النوع إلى تشكُّل هوية الأطفال وتعريفهم لأنفسهم كضحايا فيما بعد. ويمكن أن يصبح ذلك بمثابة مذكرة لأعمال عنف مستقبلية للتأكد من عدم تمكن أي شخص من فعل ذلك مرة أخرى.
2- نظرة متشائمة: أحد أكبر التأثيرات التي تحدث على أساس يومي هو فقدان الأمل لدى الأطفال خلال حياتهم، إذ يمكن أن يتعزز لديهم الشعور باليأس، وخلال نضجهم قد لا يتخذون الخطوات التي قد تبني مستقبلاً بنّاءً لهم.
وفي العديد من مخيمات اللاجئين يكبر الأطفال وهم يشعرون وكأنهم فقدوا كل شيء، ولا يمكنهم فعل أي شيء لتحسين الأمور لأنفسهم.
وفي مناطق أخرى، يقول جيمس غاربرينو، المدير المشارك لمركز تنمية الحياة الأسرية بجامعة كورنيل، إنه يمكن لتجارب الأطفال الحربية أن تمنحهم وجهة نظر ساخطة عن البالغين والمجتمع بشكل عام.
3- تطبيع العنف: يتقبل العديد من الأطفال الذين يتعرضون لأعمال عنف مروعة خلال سنوات نموهم الأساسية أعمال العنف كجزء طبيعي من حياتهم. ويوضح المختص أن هذا "يعرض الشباب لخطر استمرار دورات العنف في حياتهم لاحقاً، إذ يصبح العنف هو الطريقة التي يستخدمونها لتأديب أطفالهم فيما بعد، أو للتعامل مع أقرانهم وزوجاتهم".
دور الأسرة في توفير الرعاية والملاذ الآمن
تتطلب دراسة الصحة العقلية للأطفال في سياق ما بعد الحروب النظر في عوامل الحماية المحتملة، التي من المفترض لهم أن يحظوا بها خلال هذه المرحلة العمرية المهمة.
وبينما قد تعمل الأسرة كعامل ضغط في حالة العنف الأسري، يمكنها أن تعمل في المقابل على تعزيز قدرة الأطفال على الصمود من خلال تقديم الرعاية والدفء والملاذ الآمن لهم.
ووجد بحث World Psychiatry أنه في سياق الصدمات المتعددة التي تسببها الحرب والكوارث الطبيعية، فإن رعاية الوالدين تخفف من نتيجة تعرض ومعاناة الأطفال للصدمات النفسية والعقلية والاضطرابات السلوكية.
واتضح أن الأطفال الذين أفادوا بأن والديهم كانوا مهتمين للغاية برعايتهم وتعويض شعور الأمن الغائب لهم واحتوائهم وتعزيز مشاعر الدفء لديهم، لم يعانوا بنفس القدر من المشاكل النفسية المتعلقة بالتعرض للصدمات الجماعية والكوارث.
وبالمثل، كشفت البيانات المأخوذة من العائلات الناجية من الحروب في أوغندا مثلاً، أن تسبب صدمة الحرب في إصابة الأطفال بالأمراض النفسية كان مرتبطاً بشكل واضح بطريقة ومستوى رعاية الطفل من قبل أسرته والأوصياء عليه.
وبالتالي يمكن الاستنتاج أن الأطفال والأسر الذين يعيشون في مناطق الحرب أو الذين يفرون منها لديهم احتمالية كبيرة للمعاناة من مشاكل الصحة العقلية بشكل عام، ويتطلب الأمر قدراً هائلاً من الجهد والعمل والرعاية المختصة لتجنب ذلك.
وهذا لأنهم يواجهون تراكماً لعدد من عوامل الخطر على مستويات اجتماعية وبيئية مختلفة.
ومع ذلك، يلعب دور الأبوة والأمومة دوراً حاسماً في الرفاهية النفسية للأطفال في سياق الحروب، سواء كعامل خطر إضافي أو كعامل حماية ووقاية.
وبناءً عليه، تُشدد منظمات الصحة النفسية للأطفال حول العالم أن تراعي برامج الرعاية الصحية الملائمة للمجتمعات المتضررة من الحروب تقديم الرعاية والدعم النفسي للفرد (الطفل) والأسرة على حدٍّ سواء، وذلك لأن هذا وحده هو الكفيل بوقف الحلقة المفرغة المحتملة لصدمات الحروب والاضطرابات النفسية للأطفال.