تأخذ الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة ليومها العاشر منحنى تصاعدياً، في ضوء استمرار القصف المركّز على أهداف البنى التحتية، الذي شمل تدميراً شبه كامل لمرافق حكومية ومدنية ومنشآت اقتصادية، وتضرر قطاع الخدمات الرئيسية كالمياه والكهرباء والاتصالات والنقل.
يُجمع مراقبون على أن سياسة جيش الاحتلال في حربه ضد غزة تختلف في ظروفها الميدانية الجارية عن الحروب الثلاث الأخيرة التي شهدتها غزة: 2008، 2012، 2014، من حيث طبيعة الأهداف التي تم استهدافها، وحجم الضرر الذي تسبب فيه القصف الإسرائيلي، الناجم عن استخدام تكتيك جديد عبر قنابل وصواريخ تُستخدم لأول مرة كقنابل JDAM 31 و39 المجنحة شديدة الانفجار التي طورها الجيش الأمريكي.
عقيدة الضاحية
رفيق أبو هاني، العميد المتقاعد والمختص في الشؤون العسكرية، قال لـ"عربي بوست" إن "النهج الذي تطبقه رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي في حربها ضد غزة مشابهة إلى حد كبير لعقيدة الضاحية، التي تقوم على أساس ضرب البنى التحتية المدنية والعسكرية وتسويتها بالأرض، بهدف قطع التواصل الجغرافي في المنطقة المستهدفة، وتشتيت الخصم، وإفقاده عنصر المباغتة، وكسر معنويات الجمهور عبر رفع تكلفة الحرب من حيث الخسائر الاقتصادية والبشرية، باستخدام سلاح الطيران دون الوصول إلى مرحلة الحرب البرية".
وأضاف أنه "من الواضح أن التوجه الإسرائيلي نابع من استدراك التكلفة الكبيرة لقصف تل أبيب، ومحاولة تغييب صورة الهزيمة التي استطاعت المقاومة أن تسجلها في هذا القصف الذي يحدث للمرة الأولى بهذه الكثافة، كما أن المقاومة في تهديدها بعودة قصف تل أبيب تسعى لتسيير الميدان وفق ما تراه مناسباً لها، من خلال ما يُعرف بتكتيك برمجة النيران، أملاً في إدخال الجيش في حالة استنزاف في كل نقاط الاشتباك".
مرت الحرب التي تدخل يومها العاشر بمرحلتين، الأولى هي قصف إسرائيل المباشر والمركز على الأبراج والمؤسسات الصحفية والمرافق المدنية في وضح النهار، والثانية هي الانتقال لمرحلة استهداف إسرائيل لمقدرات المقاومة بشكل مباشر، وفق ادعاء وحديث المسؤولين العسكريين في بيانات الجيش الرسمية، والإحاطة الإعلامية لرئيس الأركان ووزير الدفاع، بأن العملية تحقق الأهداف التي تم رسمها وأنها لا تزال مستمرة.
مِن شواهد هذا التوجه للسلوك الإسرائيلي توقف قصف الطائرات الحربية واستهداف الأبراج السكنية بعد تحذير أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، الإثنين، بأن عودة إسرائيل لقصف المرافق المدنية سيقابله رد المقاومة بقصف تل أبيب ومدن المركز، ولذلك شهدنا منذ الـ48 ساعة الأخيرة حالة من الهدوء في مدن المركز، قد تكون نابعة من مخاوف إسرائيل من عودة مشاهد القصف على قلب تل أبيب.
مؤمن مقداد، محرر الشؤون الإسرائيلية في شبكة الهدهد للشؤون الإسرائيلية، قال لـ"عربي بوست" إن "التحليلات من المراسلين العسكريين والمقربين من دوائر الجيش يشيرون إلى أن المستوى السياسي مَنح في مرحلة متأخرة من اندلاع الحرب، رئيسَ الأركان أفيف كوخافي، تفويضاً بتسيير الحرب على غزة ضمن مستوى القصف الجوي، دون الانجرار إلى مستنقع الحرب البرية، لذلك فإن شدة القصف هي نابعة من تعويض الاجتياح البري، الذي لا يبدو خياراً وارداً في هذه المواجهة، خشية من تعرض الجنود للأسر لدى فصائل المقاومة".
كوخافي وخطة تنوفا
تعد هذه الحرب أول اختبار حقيقي لرئيس الأركان أفيف كوخافي، منذ توليه منصبه كقائد للجيش قبل ثلاث سنوات، ويُنظر إليه على أنه وريث سلفه غادي آيزنكوت من حيث فلسفته القتالية، وتشابه عقيدة الضاحية مع خطة "تنوفا" التي رسمها كوخافي منذ توليه منصبه، وتم إقرارها والعمل بها قبل عام وتستمر 5 أعوام، بتكلفة تصل إلى 6 مليارات دولار.
تقضي الخطة بتغيير أولوية تطوير القدرات العسكرية للجيش من دفاعية إلى هجومية، بمنحها أولوية بنسبة 70%، بما يشمل تعزيز سلاح المشاة والمدرعات وإنشاء سربي طيران ليكون تحت تصرف المؤسسة الأمنية، وتعزيز دور الاستخبارات العسكرية، لتقليص فترة حسم المعركة بما لا يزيد عن عدة أيام أو أسابيع قليلة.
إسلام شهوان، الخبير والمختص في الشؤون العسكرية، قال لـ"عربي بوست" إن "تكتيك الجيش في حربه الجارية في غزة هي مسألة متعلقة بعقيدة قادة الأركان، كوخافي من جهته يؤمن بأن إطالة أمد الحرب لا يصب في صالح الجيش، لذلك تقوم خطته على تحقيق أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف الخصم باستخدام سلاح الطيران وبكثافة نارية عالية ومدمرة".
وأضاف أن "كوخافي وضع هدفاً في هذه الحرب ضمن ثلاثة مستويات: الأول استعادة الردع باستهداف قادة الفصائل كصورة انتصار ينهي به المعركة، والثاني ضرب المنظومة العسكرية للفصائل عبر تدمير الأنفاق ومحاولة الوصول لشبكة الاتصالات الداخلية، والثالث محاولة نزع ثقة الجمهور في المقاومة، بضرب الحاضنة الشعبية من خلال إحداث ضرر كبير في مرافق البنى التحتية ذات الطابع المدني".
وتابع إننا "شهدنا تكتيكاً خاصاً من قِبل المقاومة بضرب الحشود العسكرية شرق الحدود بقذائف الهاون بعد هدوء نسبي، وهدف ذلك إشعار الجيش بأن المقاومة هي من تقود وتتحكم في شكل المواجهة، وأنها تمتلك عنصر المفاجأة التي خسرتها إسرائيل في هذه الحرب".
لعل التطور الأبرز الذي شهدته الساعات الأخيرة هي حالة الجهوزية والاستعداد التي ظهرت بها المقاومة الفلسطينية من خلال قصف الحشود البرية على طرف الحدود، دون أن تعلن إسرائيل إرسال تعزيزات عسكرية إلى هذه المناطق، وهو أمر قد يكون مرتبطاً برغبة المقاومة تخفيف الضغط الواقع على المناطق داخل القطاع، أو استدراج إسرائيل لمعركة برية تحقق من خلالها المقاومة إنجازاً عسكرياً بإيقاع أكبر قدر من الأذى، كقتل أو أسر الجنود الإسرائيليين.
محمد مصلح الكاتب والمحلل السياسي قال لـ"عربي بوست" إن "مسألة تسيير المعركة لا تتم وفق رغبات أحد، فلكل طرف أدواته التي يمكن من خلالها التحكم في آلية القصف المتبادل، ما يجري في غزة هو استنساخ لسياسة الفشل التي منيت بها إسرائيل في حرب لبنان الأخيرة، فرغم الأذى الكبير الذي لحق بالبنى التحتية فإن الجيش خسر معركة الردع وتحمل تبعات هذا الفشل، كونه لا يزال ينظر إلى هذه الجبهة على أنها تهديد لأمنه القومي من الدرجة الأولى، ومعركة غزة الجارية تكرار لنموذج حزب الله في طريقة القصف واستخدام تكتيكات عسكرية دفعت إسرائيل مضطرة إلى الدخول برياً في جنوب لبنان".
وتابع أن "مسألة تغيير إسرائيل لأولويات المعركة من إيقاع الأذى بالمدنيين الفلسطينيين في بداية الحرب، إلى محاولة ضرب البنى التحتية للمقاومة، نتيجة الانتقادات لسياسة التزييف التي اتبعتها الحكومة الإسرائيلية في تضخيم الإنجازات التي حققتها بقتل مئات المدنيين". الخلاصة أن المستوى السياسي الإسرائيلي يدرك قيوده في التحرك بحرية داخل جبهة غزة، لأنه لا معنى لأي انتصار في جولة قتال دون تكامل أركان العملية العسكرية، وأهمها الدخول البري واجتياح غزة، والسبب في ذلك أن وجود نتنياهو في رئاسة الحكومة وغانتس في وزارة الحرب قيدهما من تكرار سيناريو 2014، حينما تمكنت المقاومة من أسر جنديين في قطاع غزة.