ذات مساء في طفولتي شاهدت أحد الأفلام الأجنبية بكل حماس، كيف لا ومن يلعب أحد الأدوار الرئيسية في الفيلم فنان ذو ملامح شرقية لا أجهلها البتة، إنه فيلم "لورنس العرب" الذي أدى خلاله الراحل عمر الشريف دور الأمير علي بن الشريف حسين. وقتها لم أهتم بلورنس ولم أهتم بالعرب بل فقط بهذا الفنان الذي كان يظهر بجوار إسماعيل ياسين ولكنه يتحدث الآن بلغة لا أفهمها، هذا كله لا يهم، فلقد شاهدت الفيلم مرة أخرى ولكن في شبابي وبالطبع ليس من أجل عمر الشريف هذه المرة بل من أجل لورنس هذا الرجل الذي ملأ عقلي بالتساؤلات يوماً تلو الآخر ولسنوات طوال.
إنه توماس إدوارد لورنس هذا الباحث في علم الآثار الذي تحول فجأة لضابط في صفوف المخابرات البريطانية في منطقة الشرق الأوسط، وبطريقة لم أستوعبها في البداية نجح هذا الرجل ذو الملامح الغربية في إقناع أمراء الحجاز والشام بالتعاون مع الاحتلال البريطاني في حربه ضد الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، مع وعد باستقلال العرب عن العثمانيين والاستعمار، لكن ما حدث غير ذلك فلقد وقع العرب جميعهم في فخ الخديعة الكبرى للورنس، التي سلم على إثرها القدس الشريف للانتداب البريطاني بعد عام واحد من وعد بلفور المشؤوم للحركة الصهيونية بإقامة وطن لليهود على أرض فلسطين، ليكتفي العرب بالقبول بـ"سايكس وبيكو" اللذين تقاسما أرضنا بينهما ليرثا الدولة التي حكمت المسلمين 600 عام.
لم أفهم كثيراً الدوافع التي جعلت من أمراء العرب وشيوخهم أداة في مشروع هذا الشاب الطموح، الذي خطط ورسم بكل سذاجة لا تنطلي على الأطفال حتى آلية تنفيذ المشروع الأكبر للحركة الصهيونية التي كان يدين لها بالإعجاب والولاء، فالعرب الذين ذاقوا ذل الاستعمار الأجنبي لعقود، والذين قدموا أرواحهم فداءً لبيت المقدس جيلاً وراء جيل على مدار قرون، كانوا الطعنة التي قسمت ظهر فلسطين ومنحت القدس على طبق من ذهب لليهود تحت حماية الانتداب البريطاني.
لكن وبعد مئة عام تقريباً من رحلة لورنس إلى الجزيرة العربية منحني القدر فرصة لأفهم ما لم أفهمه في طفولتي أثناء مشاهدة لورنس العرب، وما لم أرغب في تصديقه أثناء قراءتي لكتاب "أعمدة الحكمة السبعة" الذي سجل خلاله لورنس تفاصيل رحلته المشؤومة لأرض الحجاز، فقد منحني القدر فرصة مشاهدة "لورنس" آخر ولكن بثوب جديد إنه جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي امتلك وسامة لورنس وولائه للحركة الصهيونية كذلك إعجاب أمراء الجزيرة العربية به والدعم الغربي منقطع النظير، لكنه افتقد لشيء وحيد امتلكه لورنس قبل قرن من الزمان، إنه النجاح.
قبل أشهر قليلة من الآن ظهر كوشنر في منطقة العلا التاريخية بالمملكة السعودية ليشهد بنفسه مراسم توقيع اتفاق العلا بين الأمراء الخليجيين الذين تلاعب بعقولهم عاماً تلو الآخر، وقد جمعهم أخيراً بعد أن فرقهم لأربع سنوات وكأنه يرسم المشهد الختامي لمهمته التي كللت باتفاقيات تطبيع وقعت عليها الإمارات والبحرين مع دولة الاحتلال بالإضافة لوعود سعودية للمضي قدماً في المشروع ذاته، وابتسامة كوشنر وقتها كانت كافية لتبين لك مدى سعادته بما قد يعتبره هو شخصياً إكمالاً لمهمة لورنس قبل قرن، فالأجداد الذين نجح لورنس في إقناعهم بالتفريط في القدس من قبل، حتى وإن لم يوافقوا ضمنياً على ذلك، نجح كوشنر في إقناع أحفادهم بعد قرن بالاعتراف بها كعاصمة للاحتلال "الإسرائيلي".
ومن المفارقات المهمة في هذه القصة أن منطقة العلا تقع جغرافياً ضمن نطاق المدينة المنورة، المدينة الوحيدة التي استعصت على لورنس وجيش الأمير فيصل أثناء معركتهم ضد القوات العثمانية.
لكن وعلى عكس لورنس تماماً فشلت مجهودات كوشنر في العالم العربي وليس فشلاً عادياً، إنها لم تصمد حتى لعام واحد، فبعد أشهر قليلة من رحيل ترامب وكوشنر من المشهد السياسي في الولايات المتحدة، انهارت الاتفاقيات التي عمل عليها في كلٍّ من الخليج والمغرب العربي. وإن تتبعنا خطوات ما بعد التطبيع في البلدان المطبعة، فإننا سندرك بسهولة أن الهدف الرئيسي من توقيع تلك الاتفاقيات ليس العلاقات الاقتصادية بين تلك البلدان والاحتلال، وبكل تأكيد ليست التنسيقات الأمنية التي لم تتوقف للحظة منذ سنوات عدة، بل كان الهدف منها هو التطبيع الشعبي وبناء الروابط الاجتماعية بين الشعوب العربية والشعب الصهيوني المحتل، وقد بدا ذلك جلياً في خطاب رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار الذي ترأس لسنوات أكبر الشركات الإماراتية على الإطلاق في مجال العقارات "إعمار" وهو يخاطب مجموعة من رجال الأعمال الإسرائيليين قائلاً لهم: التطبيع ليس علاقات اقتصادية بل هو أن التقي بأمك وتلتقي بأمي.
والعبار ليس الوحيد بكل تأكيد، فقد حاولت الحكومات المطبعة رسم الصورة ذاتها داخلياً وتصديرها خارجياً لجميع الدول العربية عبر كل المنافذ المتاحة، بداية من الإعلام الرسمي والخاص في تلك البلدان مروراً باتفاقات التطبيع الفني والرياضي وصولاً لمواقع التواصل الاجتماعي التي اعتقدت البلدان المطبعة أنها ستنجح من خلالها باختراق الوعي العربي والسيطرة عليه عبر ذبابها الإلكتروني الأخطر من الـ"تسي تسي".
محاولات حثيثة ومجهودات ضخمة إذا قامت بها تلك البلدان لإكمال مشروع كوشنر في المنطقة قبل أن تنهار أحلام الفتى الوسيم وأصدقائه من الأمراء فوق رؤوسهم جميعاً على يد هاشتاج صغير "#أنقذوا_حي_الشيخ_جراح"، الذي وحد الأمة العربية كلها خلف القضية الفلسطينية وأظهر لجاريد كوشنر أولاً ومن ورائه الداخل الإسرائيلي ثم الأمراء المطبعين أن الشعوب العربية تستعصي على التطبيع وأن حبها لفلسطين أكبر حتى من حب هؤلاء الحكام لعروشهم وأن كوشنر الذي لم يقتدِ حتى بلورنس في ارتدائه للملابس العربية قد فشل فشلاً ذريعاً في المضي حذوه.
ليفشل مخططه أخيراً على يد شباب الوطن العربي الذين زحفوا نحن الحدود الفلسطينية في الأردن ولبنان وأغرقوا مواقع التواصل الاجتماعي بالتضامن والدعاء لفلسطين والمقاومة في كل الدول العربية الأخرى مواصلين الليل بالنهار في متابعة الأحداث وتوعية مواطنيهم بها ونقلها للعالم أجمع بمختلف الطرق الممكنة.
ليُمحَى من الذاكرة مشهد كوشنر في قمة العلا ويُكتب المشهد الختامي لمحاولته البائسة على يد المتحدث باسم كتائب القسام "أبوعبيدة" وهو يعلن رفع حظر التجوال عن عاصمة الاحتلال المقامة فوق يافا المحتلة، "تل أبيب"، لمدة ساعتين بأمر الشعب الفلسطيني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.