فلسطين بين تحديات على الأرض وأسئلة في الأجواء

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/14 الساعة 12:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/14 الساعة 12:31 بتوقيت غرينتش
مشهد من مشاهد الاحتجاجات في القدس - رويترز

فلسطين: من هنا نبدأ

تبدأ القصة من حي ولكنها تأخذ في الانتشار ولا تنتهي، هي ككل القصص، بدايات صغيرة تؤدي لنهايات عظام، هي كأثر الفراشة الذي يبدأ الإعصار، وككرة الثلج التي تكبر في حركتها، فالمهم والواجب أن هناك فعلاً وحركة، فلا السكون والجمود يؤديان للتغيير، بل العمل والدأب، إذاً من هنا نبدأ ولكن لا ننتهي، كالشعاع في مادة الرياضيات، له نقطة بداية ولكن لا نهاية له، والبداية هي فلسطين.

إنها فلسطين، القصة التي تُسطر معاني المقاومة والنضال، هنا حيث تتجسد الشجاعة، وتلهمنا بإمكانية التغيير، وبأن القليل سيتراكم ويترك أثراً ويحدث تغييراً، لكن مع كل ما تمثله من آمال، هي منبع الألم الدائم، حيث هي الاحتلال المباشر الوحيد في العالم، هي بقايا الإمبريالية، تذكرنا بآلام قديمة تعود لقرنين حيث استعمرت أغلب البلاد العربية، تذكرنا بذلك الجرح المفتوح، وأن الاستعمار لم يزل وإن تبدلت أشكاله فهنا مباشر وهناك غير مباشر.

قضية فلسطين هي قضية عادلة أو لنقل القضية العادلة، هي نموذج تقاس عليه القضايا، هي البوصلة، هتفت كل الثورات العربية لفلسطين، لنبل القضية ولأننا واحد على كل حال، ومع انكسار الثورات العربية صعد سؤال: هل خفتت قضية فلسطين؟ هل سُحب البساط من تحتها لأجل هموم قُطرية؟ بالطبع لا، هي إعادة تعريف وإعادة تموضع، فقضايانا كلها مترابطة، فواقعنا شديد التعقيد والتداخل، نفرح معاً بثورة تونس، ونحزن معاً على انقلاب مصر وحال سوريا، نحن كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، فما بالك بالقلب! ولكن لعلنا أدركنا أن التحرير يبدأ من دمشق والقاهرة وغيرهما من العواصم، وقديماً أدركت الحملات الصليبية ذلك فباتت تبدأ حملاتها بغزو مصر.

فلسطين كالقلب ينبض بالحياة في كل أنحاء الجسم، ولولاه نموت، لكنه يعجز عن التحريك، يعجز عن التغيير، قد يعطي الشرارة ولكن لا يوقد وحده ناراً.

فلسطين: من هنا نؤرخ

فلسطين هي نقطة مهمة لتأريخ المنطقة العربية، بالإضافة إلى أنها تمثل زر المفاعل الذي يبدأ حقباً وينهي أخرى، فعلى سبيل المثال مثلت النكبة 1948 المسمار الأخير في نعش الملكية في مصر، فقيام دولة الاحتلال وعدم صمود الجيش المصري وغيره من الجيوش العربية مثلت صدمة في الوجدان العربي، ومثل انهياراً لشرعية النظام الملكي، الذي سقط بعدها بأربع سنوات.

مثلت الحقبة التالية للملكيات وعلى مدار عقدين من الزمان أوج القومية العربية، في نسختيها الناصرية والبعثية، واتسمت هذه القومية بالمعاداة لإسرائيل والغرب، أي المستعمرين القديم والحديث، هذه القومية الإقصائية التي لم تثبت شرعيتها في دولها، حيث قامت على القهر، سرعان ما انهارت هي الأخرى بعد النكسة، فمثل انهيار الجيش المصري أمام الضربات الإسرائيلية صدمة كبيرة، ومهدت الطريق إلى سقوط المشروع العربي، في مقابل انكفاء قُطري وهنا المقصود على مستوى النخب الحاكمة لا الشعبي، فالشعوب ظلت تنظر إلى فلسطين وتدعمها معنوياً ومادياً، ومع انهيار القومية العربية بصبغتها العلمانية بدأ صعود التيار الإسلامي أو ما يسمى الصحوة، التي تبنت القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل، وكانت مصر الفاعل الأقوى في المنطقة خلال الحقبة الناصرية ولكن مع تطبيع السادات للعلاقات مع إسرائيل لاحقاً كان سقوط الدور المصري في المنطقة الذي لم يعوض بعد مرور ما يزيد على الأربعة عقود.

يميل العالم إلى التأريخ لبداية الألفية بأحداث 11 سبتمبر/أيلول وما نتج عنها ما أحداث، ولكن تعتبر الانتفاضة الثانية الحدث الأهم الذي قد تؤرخ عنده بداية الألفية الجديدة للمنطقة العربية، بدأت الانتفاضة مرحلة من تسييس وربما تثوير الشارع العربي وفي مقدمته المصري، شاهد الناس ما تفعله الحركة والمظاهرات، شاهد الناس ما يمكن أن يفعله الشارع، كان الشارع لا يفرغ من المظاهرات تضامناً ودعماً للانتفاضة، واستمر فيما بعد احتجاجاً على الغزو الأمريكي للعراق، ثم أنشئت حركة كفاية، ثم انتخابات 2005 وحركة التضامن مع القضاء، ثم أحداث أبريل/نيسان 2008، ثم الجمعية الوطنية للتغيير، ثم كانت الثورة المصرية، ألا ترى أن الانتفاضة هي نقطة التأريخ؟!

إذاً نؤرخ لمنطقتنا بفلسطين، فهل نشهد الآن حقبة جديدة؟

تحديات وأسئلة

في مرحلة انكسار الربيع العربي ومع غلق المجال العام ومساحات السياسة في العديد من الدول العربية، ومع قمع الفاعلين من الإسلاميين وحركات اليسار وغيرهم، نجد أن التفاعل في الشوارع مع القضية قل جداً، بالإضافة بالطبع إلى ظروف كورونا، وأغلقت العديد من قنوات الدعم المادي بحجة التضييق على الفصائل الإسلامية، كل هذا وجه وسيلة التضامن إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فكانت الكتابات والهاشتاجات والبث المباشر على إنستغرام وغيرها من طرق بث التضامن والدعم، هذا ليس نقداً ولكن محاولة لفهم سياق جديد.

وصعدت العديد من التحديات والأسئلة في الحقبة الأخيرة لصورة القضية فوجب محاولة فض الاشتباك عنها، فعلى سبيل المثال معضلة الثورة السورية وما يعرف بمحور المقاومة كحزب الله وبشار وإيران ودعمهم للقضية الفلسطينية، ولكنهم في الوقت نفسه مارسوا أبشع الوحشية في سوريا، نتقطع من داخلنا من إسلاميين وعروبيين يمتدحون إيران وسوريا، ولكن عزاؤنا أنهم فاعلون للقضية ولا يمثلون القضية ذاتها، وأن القضية أكبر منهم جميعاً، وأن الأقصى هو المقدّس لا تنظيمات وفاعلين بعينهم، وأن الفلسطينيين ككل، هُم من نأمل فيهم، وقبل ذلك كله فاللوم على عاتق الأنظمة المتخاذلة عن دعم القضية وفصائل المقاومة.

يذكرني هذا بصديق تركي يرى أن الفلسطينيين يقرون بإبادة الأرمن وآخر يرى أنهم يدعمون الصين ضد مسلمي تركستان الشرقية لأن ممثلي السلطة أقروا بذلك، وعليه يقول لن أدعم القضية الفلسطينية، يغفل هو التعقيد في القضية وأن رأس السلطة نفسه لا يمثل الفلسطينيين، ويغفل عدالة القضية لذاتها.

وتاريخياً وظفت الأنظمة العربية المستبدة القضية الفلسطينية لشرعنة وجودها وبرسم إسرائيل كعدو، ووظفوها لتعزيز شعبيتهم لكونها محل إجماع، ولكن لم ينقص هذا من عدالة القضية الفلسطينية، ولاحقاً تبدلت مواقف العديد من هذه الأنظمة.

وهناك أسئلة في ظاهرها قد تبدو مشروعة وذات منطق لكن التوقيت وطريقة توظيفها يحولها لأداة تنخر في القضية، فمثلاً سؤال لماذا فلسطين دوناً عن باقي القضايا كتركستان الشرقية وميانمار وغيرهما؟ لماذا يتفاعل الناس معها ويدعمونها دوناً عن الباقي؟ فإذا كانت هذه دعوة للعمل لباقي القضية والتعلم من فاعلي القضية الفلسطينية في نشر وتدويل القضية لكان سؤالاً مشروعاً، أما طرحها على سبيل الاستنكار وانتقاد العاطفة والحماس هو ما لا يصح، خصوصاً إذا كانت مثل هذه التعليقات في فترة يستباح فيها الأقصى ويتم قصف غزة.

وسؤال استنكاري آخر هو أن المقاومة بضربها قد تقتل الأطفال، أليس هذا خطأ أخلاقياً؟ مشكلة هذا السؤال بالدرجة الأولى هي التوقيت وثانياً تراتبية المسألة الأخلاقية، فأهل فلسطين تحت القصف ومحاولة مقاومتهم تصير محل إدانة، كما أن المقاومة هي بتعريفها نفسها ردة فعل، ولنتذكر أن هذه المعضلة هي صنيعة الاستيطان الذي يستهدف الاستقرار بإنشاء حياة مدنية وتكوين أسر، ولا يتم استهداف هؤلاء عن قصد من الأساس، فلم نسمع عن طعن طفل أو تفجير مدرسة من قبل الفلسطينيين.

المقاومة تستعدي الاحتلال، ألا ترون أن ضحايا الفلسطينيين أكبر؟ من أبجديات المقاومة أن الخسارة الكمية الأكبر في صف المقاوم، فالجزائر انتصرت على فرنسا مع أن شهداءها أضعاف قتلى فرنسا، وكذلك الحال في فيتنام، تمثل المقاومة رمزاً وكسراً لصورة سلطة الاحتلال وكأنه متحكم بكل شيء وهذا أضعف الإيمان، وأقواه أن تطرد المحتل عن أرضها، والمشكلة الأخرى في هذا السؤال تكمن في تصوير عدوان الاحتلال كردة فعل موفرين له تبريراً على طبق من ذهب، وأيضاً تخيل أن الاحتلال يقاوم باللاعنف، وهو أمر خطأ تاريخياً وبحثياً فحتى باحثو اللاعنف يقرون بأن ظاهرة الاحتلال تقاوم بالعنف، ويُؤثر عن غاندي أن اللاعنف قد يستلزم حداً أدنى من الأخلاق يمتلكها العدو، فماذا إن غابت؟ وانسداد أفق اللاعنف في جنوب إفريقيا دفع مناهضي نظام الفصل العنصري لحمل السلاح، وأخيراً لا تكرر كلامهم يا صديقي فتتشابه القلوب بعدها.

وفي النهاية

الخير في كافة بلادنا، ومخطئ من يختص به بقعة دون الباقي، فكم رأينا شيوخاً ذوي همة تفوق همم الشباب، ولكم رأينا نساءً ضحين أضعاف ما ضحى الرجال، ولكم رأينا أطفالاً شجاعتهم فاقت الكبار، ولكم رأينا مصابين ومعاقين ومرضى ثابتين مقاومين كما لم نر في الأصحاء، وغيرهم الكثير، رأينا هذا في مصر بأم أعيننا، ورأيناه في فلسطين عبر الشاشات، ورأيناه في سوريا والعراق واليمن وفي شتى البقاع إما عبر الشاشات أو الصحف أو بتناقل الروايات، وما خفي كان أعظم.

وتظل القضية الفلسطينية توحد الجميع وتظهر الخير فينا، هي قضية ما فوق السياسة والاستقطاب رغم محاولات أخيرة لجعلها عنصر خلاف ورسم تحالفات، فبعض دول الخليج رأت في إسرائيل بدلاً من تركيا قوة لموازنة إيران، ولكن عبثاً كانت هذه المحاولات، فالقضية تبقى لتوحد كل الطيف السياسي في البلدان العربية والإسلامية، كعادة القضايا الوجودية.

الشباب في مقدمة النضال بعد مرور 73 عاماً من النكبة، فتوارث القضية والنضال من أجلها وعدم تقبل الواقع القائم كله يبعث فينا الأمل، إنه هتاف "بنرددها جيل ورا جيل، بنعاديكي يا إسرائيل" في أفضل تجلياته.

وبعيداً عن تغيير ملموس، إننا نفرح بالرمزيات، الابتسامة في لحظة الاعتقال، رمية حجر، شيخ ما زال يقاوم، قعيد لا يفتأ يذكرنا أن العجز في قلوبنا وعقولنا، صواريخ تطال تل أبيب، ولا مشكلة في الرمز، ألا يكفي ليجعلنا نستمر، نحن نحب بالرمز ونحيا من أجل الرمز، أفلا تكون البداية الحفاظ على الرمز ونشره؟ فبالرمز وبناء القوة جنباً إلى جنب يبقى أمل التحرير قائماً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بلال هشام
طالب سياسة واقتصاد، ومهتم بقضايا الاجتماع والاقتصاد السياسي
تحميل المزيد