يقال في الأثر: "لا يوجد احتلال دون مقاومة"، هذه المقولة هي إحدى السنن البشرية الثابتة التي قَلَّ أن تجد لها استثناءً أو شذوذاً.
فلسطين هي فلسطين، لا أجد وصفاً دقيقاً لها، أحبُّها، وأحبُّ أهلها، لهجتهم وعاداتهم، وكل ما له صلة بهم من قريبٍ أو بعيدٍ، وهي كعادتها دائماً تأتيني في دعائي كعابرِ سبيلٍ وترحل: خفيفةُ الظل، عميقةُ الأثر.
وعند ذكر فلسطين تُذكر القدس، أرض الأنبياء وبوابة الأرض إلى السماء، الأرض التي يُهجَّر أهلها من بيتوهم، فما وهنوا ولا باعوا ولا رضوا ولا استكانوا. تقف المرأة الشامخة فيها أمام عشرة رجال وما هم برجال، إنما مسوخٌ يقفون أمامها كحمرٍّ مستنفرةٍ فرَّت من قسورة، يضحكون ويتغامزون، وغداً يبكون ويهلكون.
وعند ذكر القدس لا بد من ذكر غزَّة، الجسور التي تحمل بين طيَّاتِها معاني العزة. فتعني الاختصاص بين شخصين، أن أغزَّ فلاناً بفلانٍ فأختصَّه وأقرِّبه منِّي منزلةً، وتعني البرَّ بين الجيران والأقارب فيحسن هذا إلى ذاك ويمتنع عن أذاه، ومنها أن تَغزَّ سيدةٌ ثوبها وخزاً خفيفاً فتخيطه، أو يغزَّ القوم عَدُوَّهم فساروا إلى قتالِهِم وانتِهابِهِم غَزْواً وغَزَوَاناً -كما يغزُّون الصهاينة- والمرء منهم غازٍ.
وغَزَّةُ ظهر فلسطين ودِرعها، بها وُلِدَ الإِمَامُ الشافعيُّ، وماتَ هاشِمُ بن عبد مناف، وجَمَعَهَا مَطْرُودُ بنُ كَعْبٍ في أبياته، فقال
وهاشِمٌ في ضَريحٍ عندَ بَلْقَعَةٍ
تَسْفِي الرِّياجُ عليه وَسْطَ غَزَّاتِ
وأزيدها أنا:
وغَزَّةُ القلبِ إن جَدَّ النَّفِيرُ بِها
أضحَت دِيارُ الغاصبينَ خرَابا
● تأصيل الصراع
لم يحدث في تاريخ الاستعمار شرقاً أو غرباً، أن أسس المحتل دولةً وكياناً على الأراضي المحتلة، ثم أنكر ظلماً وطغياناً حق أصحاب الأرض الشرعيين في تأسيس دولةٍ لهم، أو عطف عليهم بوعدٍ -ليس كوعد بلفور- بأن تكون لهم دولة مستقلة، بل مسخ مشوَّه يُسمى دولة -على سبيل المجاز- كما حدث مع فلسطين وشعبها. منذ الاستعمار الأوروبي في نهاية القرن التاسع عشر، الذي انتهى بانتقال السيادة من المحتل البريطاني إلى المحتل الصهيوني في الخامس عشر من مايو/أيار عام 1948م، بقيت فلسطين دون تحرير.
● محددات الصراع
أربعة محددات: الهدف، والقاعدة القيميَّة التي ينطلق منها العدوان، والشعارات، ومنطلقات الحل، هي الأطراف التي تفكك العقدة في جدلية الصراع العربي الإسرائيلي الدائم؛ أهو صراعٌ دينيٌّ أم سياسيٌّ؟
فأما الهدف: فمعلومٌ للكبير والصغير والقاصي والداني؛ تنفيذ "موعود الله لليهود"، وكما أخبر ديفيد بن غوريون إبان حرب 67: "لقد آمنا طوال آلاف السنين بنبوءات أنبيائنا، وأن الصهيونية تستمد وجودها من مصدرٍ أبديٍّ هو الوعد الإلهي"[1].
أما القاعدة القيمية: فكما يزعم الصهاينة أنهم "شعب الله المختار" على الأرض التي منحهم إياها، هكذا زعموا وهكذا يعتقد الصهيونيون النصارى في أمريكا البالغ عددهم 40 ميلوناً أن "إسرائيل هي شعب الله على الأرض، أما الكنيسة فهي شعبه في السماء. لله وسيلتان للعمل منفصلتان لكنهما متوازيتان: الكنيسة وإسرائيل"[2].
أما الشعارات فأهمها على الإطلاق: العلم الإسرائيلي ذو الخطين باللون الأزرق أعلى رقعةٍ بيضاء وأسفلها وتتوسطهما نجمة داود. وقد فُهمت الإشارة عندما أتت، فالخطان أعلى وأسفل العلم هما نهرا النيل والفرات التي تقع الأرض الموعودة بينهما. وذلك نص القول في التوراة التي كتبها حاخاماتهم أثناء المنفى[3] "في ذلك اليوم قطع الرب ميثاقاً مع إبراهيم، لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى نهر الفرات الكبير" (سفر التكوين 15 : 18).
أما الحل: فلا وجود له، فقط المراوغة ومشاغلة العرب المسلمين حفاظاً على المكتسبات وانتظاراً للمزيد منها؛ يصر الإسرائيليون لذلك على أن يبقى كيانهم دون حدودٍ رسميةّ معلنةٍ، مع عدم قدرة أي زعيم إسرائيلي -حتى وإن كان علمانيّاً- على تجاوز المنطلقات الدينية مع العرب ومع الأرض، فيكاد يكون الصراع العربي الإسرائيلي هو أكثر الصراعات تكدساً بالاتفاقيات والمعاهدات والخطط وخرائط الطرق، دون مضمون محدد أو نهاية ترجى.
● لماذا يكرهون المقاومة، ونشدُّ عليها نحن؟
إن الاحتلال هو وقود المقاومة، ولا وجود لتنازلاتٍ دون ضغطٍ وتنديدٍ وكرٍّ وفرٍّ، فإن رحل المحتل خائباً ذليلاً انطفأت برحيله المقاومة وانتهى عملها، وهكذا فإن "قصة المقاومة في فلسطين لم تبدأ من الانتفاضة الأولى أو الثانية، أو تنفيذ عملياتٍ استشهاديةٍ، أو إطلاق الصواريخ، أو رفض تجديد التهدئة، بل تبدأ قبل كل ذلك بقليل، لقد بكى العرب طويلاً على محمد الدرة، ولكنهم لم يلاحظوا أكثر من 1200 طفل آخر قتلوا من بعده وحتى حرب غزة 2009، كل طفلٍ منهم يقدم ذريعة لعمل المقاومة"[4].
ثم إن عداءهم للعرب والمسلمين يمتد إلى ما قبل فلسطين بمئات السنين، فهم يحتقروننا ويطلقون علينا أقذر الأوصاف والسباب حتى في مقرراتهم الدراسية والإعلامية، ويدعون أننا بلا هوية، كمقولة هيرتزل الشهيرة: "إن فلسطين أرضٌ بلا شعب، يأخذها شعبٌ بلا أرض"، وإن كان هناك شعبٌ فهو لا يرقى ولا يستحق أن تكون له دولة، فهو شعبٌ بدويٌّ بلا حضارةٍ، لم يكن ليعيش ويؤسس دولته لولا وجود إسرائيل. لذا فالقوة في العقلية الصهيونية هي خيار استراتيجي شامل وليست خياراً ظرفيّاً، فليس سهلاً أن يتم استئصال شعبٍ من أرضه مع ثقافته وتراثه وحضارته، ووضع شعبٍ آخر مكانه، ومع تتابع الأجيال حرص "الآباء المؤسسون" على نقل تلك الثقافة وتغلغلها في عقولهم عبر التعليم والإعلام.
● آليات المقاومة
من الناحية العملية فإن المقاومة ضد الاحتلال لم تكد تتوقف منذ تأسس الكيان، قد تتراجع وتيرتها حتى تكاد تختفي، ولكنها مستمرة، ولضمان بقاء الفتيل مشتعلاً فيجب التذكير بعدة أمور[5]:
1- أثبتت الشعوب دوماً أنها تسبق حكامها في دعم القضية الفلسطينية، لذا فحتى وإن تخاذل الحكام كعادتهم في نصرة إخواننا فلا بد أن ننتفض لهم ونشد على أيديهم ونشاركهم جهادهم ومقاومتهم، كلٌّ على قدر استطاعته وتمكينه، بالجهاد والمال والمساعدات والدعاء.
2- لم تتفاعل أغلب الحكومات العربية مع القضية بدافعٍ ذاتيٍّ، بل معظمه اضطراراً واستجابةً للضغوط الشعبية أو تحايلاً عليها، لذا فلم يتمكن العرب منذ تأسيس الكيان أن يوقفوا مخططاته ومؤامراته، رغم كل القمم والمباحثات التي عقدت منذ أول قمة (إنشاص- مصر 1946م) لوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فهل توقفت؟! مطلقاً، لذا فروح المقاومة الشعبية عبر وسائل الإعلام والصحافة والتواصل الاجتماعي هي بمثابة الغصَّة في حلق الاحتلال، عبر تصوير الفيديوهات وتوثيق الصور ونقل المشاهد إلى العالم بشكل عام، وإلى المواطن العربي والمسلم على وجه الخصوص؛ أغلب الظن لم يعد يعلم ما يجري في فلسطين -وغيرها من بلدان المسلمين- أو هدأت وتيرة القضية داخله.
3- تعليم أبناء الجيل الجديد (ما بعد الألفينيات) ممن لم يعايشوا الانتفاضتين وحروب الاستنزاف وغيرها من أحداث المقاومة الشعبية والعسكرية، تعليمهم تاريخ فلسطين وحقوق شعبها المناضل وتذكيرهم بالقضية الأساسية التي يحاربون لأجلها كي تبقى جذوة المقاومة مشتعلة في قلوبهم.
● خاتمة ليست بخاتمة
للَّه دَرُّ فلسطين ودَرُّ أهلها الأشاوس، من يبيتون الآن تحت زخَّاتِ الرصاص وصيحاتِ الغُرّ الميامين. فكأنهم خُلقوا للجهاد وعليه يعيشون، فلا فرَّطوا في وطنهم يوم فرَّط إخوانهم فيه، ولا داهنوا أعداءهم حتَّى ينالوا رضاهم أو يتَّقوا شرَّهم، وليكتبنَّ لهم النصر بإذن اللَّه ومشيئته، عاجلاً أم آجلاً، وذاك وعد ربِّي وكان وعد ربِّي حقاً.
يتعجَّب المارّ بها أو العارف عنها، فيراها كسراجٍ منيرٍ حين تنطفئ أخواتها الأخريات. لا تنسى وجيعتهم في قلب محنتها، وتمُّد العون بلا سابق عرفانٍ أو حاجة. إن حُوصرت فلا يضنيها حصار، فينادي البطل من أبنائها: خَسِئت يا ابن صهيون! أنت وأتباعك الأخسرون! إن قتلت منِّي بطلاً زِدتُك مكانه بطلين، وإن قصفت لي بيتاً فلتنظر أي البيوت لك تحترق، وأي الديار على رأسك تهدم، واعلم أنه كلمَّا صعدت روحٌ منَّا أنبتت أرواحاً، إنَّا لنحن المنصورون، وَإِنَّ جُندَنا لهمُ الغالِبون.
فلكِ اللَّهُ يا فلسطين، في رمضانكِ وعيدكِ وجل أيامكِ، طبتِ وطاب من فيكِ.
العزَّة دونكِ مُهدرة، وحلَّقتِ أنتِ بلا قيود.
● المراجع
[1] تربية العنصرية في المناهج الإسرائيلية، ص61.
[2] كولمن تشابمان، أرض الميعاد لمن؟ كولمن تشابمان، ص479، 490.
[3] المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، الجزء الأول ص 233.
[4] لماذا يكرهون حماس؟ أحمد فهمي.
● تأثرت ببعض الأفكار التي طرحها المصدر السابق في تحليله للصراع العربي الإسرائيلي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.