بعيداً عن بروباغندا “الاختيار” ومسلسلات رمضان.. كيف تعمل “العقلية الأمنية” في أرض الواقع؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/12 الساعة 11:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/12 الساعة 19:37 بتوقيت غرينتش
عربي بوست

في أحد المشاهد من مسلسل "الاختيار 2″، يهدّئ ضابط الأمن الوطني الذي يؤدي دورَهُ الفنان كريم عبدالعزيز إحدى المتهمات في قضيةٍ تخصّ الأمن القوميَّ للبلاد، بعدما أبدت فزعاً من تأثير اعتقالها على وضع أسرتها، فيخبُرها الضابط أنّ من قيم المؤسسة التي يعمل معها، الأمن الوطني، الفصلَ بين المتهمين والمطلوبين من جهة، وبين ذويهم من جهة أخرى.

في مشاهد أخرى، يقوم نفس الضابط بجلب طعام ومشروبات لأحد المتهمين، ويخطرُ معتقلاً أنّ استخدام الإهانات اللفظية والمساسّ بالأعراضِ على غرار سبِّ الأمهات أسلوبٌ غير متّبعٍ لدى الضباط العاملين في هذا الجهاز، فالاحترافيةُ والأخلاق تقتضيانِ خلاف ذلك.

في أرض الواقع وبالتزامن مع عرض هذه المشاهد في مسلسل "الاختيار 2″، حدثت واقعةٌ مغايرة تماماً لمضمون رسائل العمل. إذ ادعت والدة أحد المعتقلين، أن مصلحة السجون أشرفت، مع المساجين الجنائيين على الاعتداء الجنسيِّ على أحد المعتقلين من شباب الإسلاميين، ويدعى عبدالرحمن الشويخ، لسببٍ غريب، هو ترتيلهُ بعض الأحاديث النبوية بصوتٍ جهوري، على نحو أزعج رجل الأمن من الجنائيين في الزنزانة، وذلك كله بمعرفة ضابط الأمن الوطنيِّ الملحق بالسجن.

ولما اعترضت أسرة المعتقل وقدمت بلاغات لإخطارِ النيابة بما حدث لنجلها من انتهاكات، برز دور الأمن الوطني في التعامل مع الحادثة جلياً؛ حيث اعتقل ضباطه أسرة الشويخ كاملة تقريباً، الأبّ والأمّ والابنة (شقيقة عبدالرحمن)، وهي فتاة جامعية تبلغ من العمر 18 عاماً، عقاباً لهم على إجراءاتهم القانونية.

ما يُروجهُ العمل الدراميُّ أنّ الأصل في عمل ضباط الأمن الوطنيِّ، هو الاحترافية والالتزام بالتقاليد الأخلاقية والمؤسسية، وما عدا ذلك محضُ استثناء، قد لا يحدث أصلاً. فيما يقول الواقع جازماً خلاف ذلك… فأيّ الروايتين نصدق؛ الدعاية الدرامية أم الروايات المتواترة؟ وكيف يعمل جهاز الأمن الوطني في مصر على أرض الواقع؟

العقلية الأمنية 

يعدُّ هذا الكتابُ، "العقلية الأمنية في التعامل مع التيارات الإسلامية"، لمؤلفه المهندس أحمد فريد مولانا، عضو المكتب السياسي للجبهة السلفية والكاتب المتخصص في الشأن المصري، لاسيما جوانبه الأمنية، كوداً مرجعياً استثنائياً يشرح لنا العالم الغامض لجهاز الأمن الوطني المصري، على حقيقته، بعيداً عن التزوير والتجميل.

استقى الكاتب مادة كتابه بالكامل، تقريباً، من الوثائق السرية التي استطاع الثوار الحصول عليها في خضمِّ أحداث ثورة يناير/كانون الثاني، التي شهدت اقتحام مقرات الجهاز سيئ السمعة في مصر، ثمّ قام أحد المواقع، جرى إغلاقه لاحقاً، بنشر هذه الوثائق، ليركزَ الكاتب على تحليل هذه الوثائق وتقسيمها واستخلاص الفوائد منها، وهو جهدٌ نادر، إن لم يكن غير مسبوق.

من الضروريِّ عند قراءة الكتاب أن نفرق بين الاستراتيجياتِ التي كان يتبعها الجهاز، بتعليمات من المستوى السياسيّ، في مكافحة خصومه، وعلى رأسهم الإسلاميون، أيام حكم حسني مبارك، وبين الاستراتيجية الحالية التي يتبعها الجهاز، بالتنسيق مع المستوى السياسيِّ الحاكم في الوقت الراهن.

رغم أنّ الكتاب جمع بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 مباشرةً، لشرح استراتيجية عمل جهاز أمن الدولة ضدّ الإسلاميين، وتوثيق تكتيكاته، ومحاولة تلافيها في المستقبل؛ فإنّ الفرق الرئيسي الذي يمكن استنباطهُ بين جوهر استراتيجية الجهاز أيام مبارك وبين استراتيجيتهِ الحالية، هو أنّ المنهج أيام مبارك كان وقائياً استباقياً لتحجيم دور الإسلاميين في المجتمع إلى حدوده الدنيا، أما في الوقت الحالي، في عهد السيسي، فإنّ الجهاز يتبع استراتيجيةً استئصاليةً، بناءً على المخاوف التي انبنتْ بعد الثورة، وما تلاها من انقلاب عسكري ومجازر، صعبت من إمكانية استخدام المنهج التحجيميِّ، وحولت الصراع إلى صراع صفريٍّ بشكل حقيقي لا مجازي.

أهمُّ الشواهد على تطور استراتيجية جهاز الأمن الوطني تجاه مكافحة الإسلاميين سلباً وجذرياً، هي تغيّر نمط ما أدرجهُ الكاتبُ تحت عُنوان: "تجفيف المنابع البشرية"؛ إذ من المعروف أنّ الأنظمة الأمنية تعتمد على سياسة "الإعدامات" للتخلص من الكوادر البشرية، القيادية والحركية، التي تشكل خطراً عليها. ولكن عندما نوثقُ آثار تفعيل هذه الآلية بين ذروة عهود القمع السياسي الحديث في مصر، سنجدُ أنّ حالات الإعدام في عهد عبدالناصر اقتصرتْ على 9 أشخاص فقط، وارتفعت في 30 عاماً من حكم حسني مبارك إلى 100 حالة، ولكنها تخطت هذا الرقم، الـ100 في السنوات الست الأولى فقط من حكم عبدالفتاح السيسي.

السبب في اتباع نظام مبارك أسلوباً أقلّ حدة قياساً على أسلوب النظام الحالي تجاه الإسلاميين، فضلاً عن اختلاف طبيعة المرحلة ومقتضياتِها هو نشوء استنتاج مفاده، إبان مبارك، أنّ الحلول الاستئصاليةَ تُولد عنفاً استئصالياً مقابلاً من الإسلاميين، يؤثر سلباً على تماسك المجتمع، ويهدد مستقبل السلطة، ويغضب القوى الخارجية، وذلك كما تقول وقائع عنف ما بعد عام 1954 وعام 1965، وهي النظرة التي تغيرت تماماً في عهد عبدالفتاح السيسي.

كيف يعمل الجهاز؟

كلمة السرّ في فهم "العقلية الأمنية" تعود إلى ظروف نشأة الجهاز، فمن المعروف في "علم اجتماع المؤسسات" أنّ المنظمات لا تنفكُّ جذرياً غالباً عن الخطوط القيميَّةِ والفكريَّةِ والتقنيَّةِ لمؤسسيها، حيث يصبح كلُّ تطور تالٍ على المؤسسة امتداداً للبِناتِ الأولى التي وضعها المؤسسون.

من هذا المنظور، يوثق الكاتبُ أنّ الخطّ الرئيس لنشأة الجهاز كان "القمع"، القمع غير المبرر، لصالح الاحتلال البريطانيّ، حينما كان اسمه "القسم المخصوص". فيما بعد بات الجهاز ذراعاً للملكية والاحتلال في نفس الوقت، لضرب خصومهم من المعارضين والمقاومين، ومع كلِّ تغير سياسيٍّ على رأس السلطة كان يتبعه تغييرٌ ظاهريٌّ في "اسم" الجهاز، بالتزامن مع انتقال الولاء من قيادة لقيادة، دون تغير جذريٍّ في القيم والتقنيات، تماماً كما حدث بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، حينما حمل الجهاز اسم "الأمن الوطنيّ" بدلاً من "أمن الدولة"، دون تغيير حقيقيّ في القيم أو الممارسات.

في وعي أمن الدولة لا يعدُّ الإسلاميون وحدهم هم العدوّ كما قد يبدو من الكتاب، فالكتابُ يسلطُ الضوء أكثر ما يكون على فلسفة تعامله مع التيارات الإسلامية أكثر من غيرها، ولكن يمكن استنباطُ، بالإضافة إلى الوقائع التاريخية المعروفة، أنّ أعداء الجهاز هم كل "التنظيمات" التي تتبنى قيماً مغايرة، وتسعى للمنافسة والاستحواذ على السلطة، سواء كانت من اليمين أو من اليسار. وقتئذ يصبح الجهاز ذراعاً للنظام السياسيِّ الحاكم، أو الدولة التي لها ملامح معينة غالباً، في وجه هذه التنظيمات. هذا رغم أنّ الحقيقة المجردة تقول إنّ التنظيمات قلبُ الاجتماع والسياسة معاً، فلا اجتماع ولا سياسة دون تنظيم، ومن هنا تتبدى لنا خطورة وجود هذا الجهاز.

في تعامله مع الإسلاميين تحديداً، كان الجهاز يستهدفُ إبان مبارك تحييدهم عن الحياة العامة، دون التسوية بينهم؛ فلم تكن سرتِ الفريُّة السارية حالياً بأنّ كل التنظيمات الإسلامية وجهٌ لعملةٍ واحدة، وأنّ الحلَّ الأمثل للتعامل معهم هو استئصالهم، أو كما قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مكثفاً هذه الاستراتيجية الجديدة في أكثر من مناسبة: "هذا الفكر غير قابل للحياة".

ومن ثمَّ، فإنّ الجهاز كان يتبنى منهجاً متدرجاً ومرناً، إلى حدٍّ ما، في تعامله مع خصومه الإسلاميين، بدايةً من المراقبة الواسعة إلى المجالات الحيوية للإسلاميين، كالمساجدِ والجامعات والنقابات، مروراً بالاعتقالاتِ، التي تختلف في قسوتها حسب أهمية المطلوب ودوره، إلى التعذيب، من أجل التجنيد وانتزاع المعلومات عن الشخص وتنظيمه، وصولاً إلى قطف رؤوس القيادات كسلاحِ ردع، لا كأداة تعامل رئيسية، فالإخوانُ يختلفونَ عن الجهاد الذين يختلفون بدورهم عن الجماعة الإسلامية، والجهاز واعٍ لذلك، حريصٌ على التمييز الجوهريِّ بين هذه الكيانات، لعوامل سياسية واجتماعية في الأصل، وعوامل أخرى تقنية ترتبطُ بضرورة الفصل بين التيارات من أجل الإلمام بها وحسن التعامل معها، ولو كان تعاملاً أمنياً بحتاً.

ماذا اختلف؟ 

فضلاً عن قلة أعداد المعدومين والقتلى من الإسلاميين خلال الفترات السابقة قياساً على الحقبة السياسية الحالية؛ فإننا سنلاحظُ قراءاتٍ "بِكر" عند التأمُّل في كثير من الوثائق التي طعَّمَ بها المؤلف مادته والمبنيِّةُ أساساً على أرشيف الجهاز المسلوب من مقراتهِ المقتحمةِ أيام الثورة.

من ذلك، سنجدُ وثائق تتكلمُ عن رصد جديد بروحٍ مندهشةٍ لجماعة تتبنى رؤى مساوقةً لرؤىْ الأنظمة السياسية الحاكمة، من دون الإسلاميين الحركيين طبعاً، كتحريم الخروج على الحاكم، والحث على التعاون الأمني مع أجهزة البوليس ضدّ الإسلاميين الحركيينَ، مع خلاصةٍ مفادها: أنّ هذه الجماعة يمكن الاستفادة منها لضرب الإسلاميين الفاعلين اجتماعياً، من منطق شرعنة القمع ضدّ الإسلاميين وإذكاءُ نار الفتنة لتمزيقهم داخلياً، ثمّ تفاجأُ أنّ هذه الجماعة المكتشفة هي السلفية الجامية، أو المدخليَّة، نسبةً إلى الشيخ ربيع المدخلي.

ستجدُ أيضاً محاولاتٍ يمكن وصفها بأنها "خجولة" قياساً على ما نراه اليوم، للتأثير على القضاء من أجل عدم التساهل في الإفراج عن الإسلاميين أو المماطلة في تنفيذ أحكام القضاء الخاصة برفع الحظر الأمنيِّ عن النقابات؛ ما يعني أنَّ الجهاز كان رغم تغوُّله في هذه الفترة أقلُّ وحشيةً ونفاذاً لأركان الحياة في مصر، بالمقارنة بما يحدث في الوقت الحالي.

أما الآن، فقد صارت نقطة البدء هي "تجفيف المنابع"، بعد أن كانت هي السلاح الأخير كما أوردها الكاتب في ترتيب استراتيجية عمل الجهاز، وذلك اتساقاً مع عقيدة السيسي في الدعوة إلى التساهل الأمنيِّ في قتل المعارضين "الظابط فلان قتل متظاهر، الظابط فلان يتحاكم؟ الظابط فلان ما يتحاكمش!"، وصارت مأمورياتُ الجهاز رفقة قطاعي الأمن العام والأمن المركزي لضبط الإسلاميين يغلب عليها الفردية والنزعة الانتقامية، وترجيح احتمالية القتل خارج القانون بدلاً من الاعتقال، وبات القضاء والنيابات أقلَّ شراسةٍ في مخالفة تعليمات الجهاز، الذي باتت له سطوة شبه مطلقة، إن لم تكن مطلقة عليهم، كما يؤكد معتقلون ومحامون، ولعلّ هذه "العربدة" الحالية ظهرت بجلاء في حادثة قتل باحث اجتماعي إيطالي (روچيني) لمجرد تشكك المخبرين والضباط في سلوكه، على خلفية إجرائه أبحاثاً ميدانية مع المواطنين في الشارع، ثم تشويه جثته، ورفض تسليم قتلته للمحاكمة، حتى لخصت والدته المأساة المعاصرة قائلة: "قتلوه كما لو كان مصرياً".

اختصاراً، ما عرضَ في مسلسل "الاختيار 2" لسلوك جهاز الأمن الوطنيِّ في التعامل مع خصومِه الإسلاميين لا يعدو كونه تزييفاً سخيفاً للواقع، لا يرتضيه حتى أشاوسُ الجهاز العاملون فيه حالياً من فرط بلاهتهِ، وإذا أردتَ الاطلاع على تطور عمل الجهاز فلتضربَ الوقائع الموثقة في الكتاب، من تكتيكات التعذيب والاستجواب وتوسيع دائرة الاشتباه وتعظيم المصادر المكانية بتحويل المجتمع إلى "مخبرين" على بعضهم البعض، ولعلَّ أيضاً في تفاصيل قضية القبض على جاسوس مصريِّ يحمل الجنسية الألمانية في المكتب الإعلامي الفيدرالي بألمانيا منذ مدة، نظراً لتعاونه مع ضباط الجهاز في السفارة المصرية ببرلين، من أجل ترجمة تقارير الصحافة هناك عن تناول النظام المصري وتتبع المعارضين واللاجئين والأقليات، رافداً حديثاً لفهم منطق عمل الجهاز بعيداً عن بروباغندا المسلسلات الرمضانية التي تجمّل الضباط وتشوه خصومهم، وقد حكم القضاء الألماني على المتهم بالإدانة بالفعل، مع تخفيف الحكم، مقابل الحصول على اعترافاته كاملة.. فمن يفعل ذلك في الخارج ماذا سيفعل في الداخل؟

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد