يعدّ الأمير عبدالقادر الجزائري من قلائل الشخصيات التاريخية في الجزائر التي تنال الإجماع والحب والاحترام، فهو أول من قاوم الاستعمار الفرنسي، ومقاومته تعدّ الأطول زمنياً (15 سنة) كما كان أول من وضع أُسس الدولة الجزائرية الحديثة المعروفة الآن.
وُلد الأمير عبدالقادر في 6 سبتمبر/أيلول عام 1807 بالقرب من مدينة معسكر غربي الجزائر، وتنتسب عائلته إلى الأدارسة الذين يمتد نسبهم للنبي محمد، وكانوا حكاماً في المغرب العربي والأندلس، وكان والده محيي الدين شيخاً للطريقة القادرية الصوفية في الجزائر.
بايع الجزائريون عبدالقادر الجزائري أميراً للجهاد ضدّ الاستعمار الفرنسي سنة 1832 الذي كان قد احتل العاصمة سنة 1830، ووقّع مع الحاكم العثماني الداي حسين معاهدة استسلام مقابل حياته وحياة حاشيته.
تخطيط بومدين
طرد الرئيس أحمد بن بلة سنة 1962 أكبر أحفاد الأمير عبدالقادر الأمير سعيد من الجزائر دون إبداء أسباب، ويبدو أن بن بلة الذي وصل إلى السلطة حديثاً بالقوة كان يخشى أن ينازعه أحفاد الأمير على السلطة لما يملكونه من شرعية شعبية وتاريخية، فجدهم هو المؤسس الأول للدولة الجزائرية الحديثة.
غادر الأمير سعيد باتجاه سوريا دون أن يثير ضجة، لكنه كان ينوي العودة إلى الجزائر في أقرب فرصة تتاح له، وفي سنة 1964 زار قائد أركان الجيش وقتها هواري بومدين سوريا زيارة رسمية في إطار التعاون العسكري بين البلدين، وعرّج في سرية تامة إلى بيت الأمير سعيد، إذ أبدى له عدم رضاه عن تصرف بن بلة تجاهه، قائلاً له: "سنلتقي قريباً في الجزائر"، حسب ما كشفت عنه الأميرة منيرة الحسني الجزائري لـ"جريدة الشروق" الجزائرية سنة 2014.
وقبل مغادرة بومدين دمشق زار قبر الأمير عبدالقادر رفقة حفيده الأمير محمد الفاتح، ووقف عنده وقال: "نَم في مرقدك الأخير أيها الأمير هانئ البال قرير العين، لقد تحقّقت أمنيتك التي حاربت من أجلها 17 عاماً، عن طريق أحفادك أبطال جيش التحرير".
ويروي الأمير محمد الفاتح لحظات الوقوف عند القبر أن بومدين بعد مقولته تلك قرأ الفاتحة وبكى، ثم ربض على كتفه وقال له: "أنتم أهل مُعسكر أحفاد الأمير"، فرد عليه الفاتح: "أنتم الرجال الذين حررتم البلاد".
ولم تمر سوى سنة واحدة حتى انقلب بومدين على بن بلة واستولى على الحكم، ثم رتب كل الإجراءات لنقل رفات الأمير عبدالقادر إلى الجزائر بمناسبة الذكرى الرابعة للاستقلال.
قصة الأمير عبد القادر
أوكل بومدين مهمة إقناع عائلة الأمير عبدالقادر بنقل رفاته إلى الجزائر ليدفن بها إلى يده اليمنى وثقته ووزير خارجيته عبدالعزيز بوتفليقة، هذا الأخير الذي طار نحو دمشق رفقة وفد يتكوّن من أربعة وزراء مهمين، وجمع أحفاد الأمير وعرض عليهم نقل الرفات قائلاً: "بومدين يريد منكم السماح لنا بنقل رفاة الأمير إلى الجزائر".
رفض الأمير كاظم وكذلك حسن نقل الرفات إلى الجزائر بينما وافق الأمير سعيد وانقسم الأحفاد الصغار كذلك حول الأمر.
لجأ الأمير سعيد إلى شيوخ دمشق وطلب منهم الحكم الشرعي في كلمة كان قد قالها الأمير بعد نفيه: "سأعود إلى الجزائر حاملاً أو محمولاً"، وكان يقصد بها حاملاً السيف أو محمولاً في النعش، وهي العبارة التي سمحت من منطلق ديني للشيوخ بقبول الفكرة وتدارسوا بينهم استخراج فتوى خاصة لنقل الرفات.
وبعدها لم يجد الأمير سعيد صعوبة في إقناع بقية الأحفاد، فهو عميد العائلة ولمّا تمكّن من إقناع الشيوخ، لم يعد للأحفاد سبب لمعارضة ذلك المطلب، رغم أنهم لم يكونوا مقتنعين بالفكرة.
بعدها بأيام بدأت التحضيرات على قدم وساق لنقل الرفات إلى الجزائر بمناسبة الذكرى الرابعة لاستقلال البلاد في 5 يوليو/تموز 1966.
رحلة العودة
تقول الأميرة منيرة الحسني الجزائري حفيدة الأمير عبدالقادر إن من فتح قبر جدها كانوا خمسة أشخاص، وهم الحفيد الأمير محمد الفاتح وميلود قاسم نايت بلقاسم وزير الشؤون الدينية والتعليم الأصلي، ووزير الخارجية عبدالعزيز بوتفليقة، وحفار القبور.
وتروي الأميرة أن حفار القبور أغمي عليه؛ لأنه وجد لحية الأمير عبدالقادر ما زالت كما كانت في الأصل، وكأن صاحبها حي يُرزق.
وتضيف منيرة أن من شهدوا فتح القبر أقسموا أنهم اشتموا رائحة مسك وعنبر عند فتحهم القبر، كما أن وجهه كان لا يزال مكسواً باللحم، أما قفصه الصدري فتهاوت عظامه حينما لامسها الهواء لأول مرة منذ أكثر من ثمانين سنة.
وبعد إتمام إجراءات استخراج الرفات اجتمع أعيان دمشق وأهلها لتوديع الأمير توديعاً رسمياً وشعبياً، رغم أنهم كانوا رافضين فكرة التخلي عن الرجل الذي أخمد فتنة طائفية في بلدهم كانت ستأكل الأخضر واليابس.
وفي يوم 5 يوليو/تموز 1966 حطّت طائرة عسكرية بالجزائر العاصمة أمام حشود كبيرة جاءت من مختلف أرجاء الوطن لحضور مراسم تشييع رفات أميرهم ومؤسس دولتهم، وبعد الاحتفالات تم دفن الرفات في مقبرة العالية في مراسم رسمية.
سيف الأمير
تقول الأميرة منيرة إن السلطات الجزائرية استقبلهم أحسن استقبال وأغدقت على العائلة ومنحتهم فيلا في قلب العاصمة مازالت ملك العائلة لحد الآن، مضيفةً أنه بعد دفن رفات جدها في مقبرة العالية، كانت الزيارات لا تنقطع عن بيتهم، فلم يبقَ مسؤول في الدولة وقتها لم يزُرهم.
وتروي الأميرة أنه بعد أن سلَّم الأمير سعيد سيف الأمير عبدالقادر للدولة الجزائرية، انقطعت زيارات المسؤولين ولم يعد أحد يطرق أبوبهم وكأن ما عاشوه كان حلماً استيقظوا منه.