انعكست حالة التوتر السياسي بين القاهرة وأبوظبي في الفترة الأخيرة، على العديد من المشروعات الإماراتية بمصر، ومنها المشروعات الإعلامية التي أنشأتها أبوظبي في القاهرة عقب الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013، سواء بشكل مباشر، أو عبر توفير مصادر تمويل سخي لها، وهي المشروعات التي اصطلح على تسميتها مراكز لمواجهة أفكار تيار الإسلام السياسي.
وقدمت الإمارات ما يزيد على 18 مليار دولار دعماً للقاهرة منذ الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي حتى العام الماضي (2020)، بحسب تصريحات الشيخة لبنى القاسمي وزيرة التنمية والتعاون الدولي الإماراتية، منها ما يقرب من مليار دولار في صورة تمويل لمراكز دراسات ومنصات إعلامية في مصر، بحسب ما ذكره الكاتب المصري وائل عبدالفتاح في مقال له، وذلك من أجل خدمة الأجندة الإماراتية والتحكم في توجيه البرامج الرئيسية في القنوات المستثمر فيها.
وعلم "عربي بوست" من مصادر موثوقة في جهاز سيادي، أن تعليمات واضحة صدرت في القاهرة لمراقبة عمل مراكز الدراسات بمصر، الممولة من الإمارات وكذلك بعض الوسائل الإعلامية الاخرى، بعدما تبين أنها تؤدي وظيفة استخباراتية وخرجت عن نطاق العمل الإعلامي، خصوصاً بعدما تم رصد اقتصار نشاط بعض مراكز الدراسات على عمل ما يسمى في العمل البحثي "تقرير حالة"، ويقصد به رصد مواقف الشارع المصري تجاه قرارات سياسية معينة، مثل موقف القيادة السياسية من أزمة سد النهضة، وقياس شعبية الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في الشارع، وغيرها من الحالات التي اعتبرتها الأجهزة السيادية أموراً استخباراتية وليست إعلامية.
سبق التحرك المصري قرارات إماراتية بخفض الإنفاق على المشروعات الإعلامية التي تمولها في القاهرة، وهو الخفض الذي بدأ قبل نحو 4 أعوام، وأدى إلى الاستغناء عن مئات من الباحثين والإعلاميين المصريين المتعاونين مع هذه المنصات الإعلامية، وكان السبب المعلن للتخفيض في كل مرة هو الظروف الاقتصادية وانخفاض أسعار النفط الذي يعد المصدر الأول للدخل في إمارة أبوظبي.
مصادر داخل هذه المنصات أكدت لـ "عربي بوست"، أن خفض الإنفاق والاستغناء عن العاملين والمتعاونين لم يكونا بسبب ظروف اقتصادية كما أعلن، ولكن بسبب عدم توفيق تلك المنصات في أداء المهمة المنوطة بهم، وهي توجيه الرأي العام المصري بما يخدم السياسة الإماراتية في قضايا محلية وإقليمية بعينها.
مراكز الدراسات الممولة من الإمارات أنشئت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية المصرية
باحث متعاون مع أحد هذه المراكز، رفض التصريح باسمه لحساسية الموقف، قلل من أهمية الخطوات المصرية الأخيرة، باعتبار أن كل المراكز والوسائل الإعلامية التي أنشأتها أو مولتها أبوظبي في السنوات الأخيرة ومنذ ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، موضوعة منذ يومها الأول في قبضة الأجهزة السيادية من خلال مديري تلك المراكز والمشرفين عليها، وهم متعاونون بشكل أو بآخر مع الأجهزة السيادية.
وأضاف قائلاً إن العلاقة بين تلك المراكز والأجهزة الأمنية في مصر كانت جيدة وموجودة منذ البداية، وكان هناك تنسيق مستمر فيما بينها لمواجهة ظاهرة الإسلام السياسي والتطرف حسبما كان يقال وقتها، حتى إن موقع جريدة الدستور التي يرأسها الصحفي محمد الباز، المقرب من النظام والمحسوب على الأجهزة الأمنية، أفرد تقريراً مطولاً يحتفي بافتتاح الموقع الإلكتروني لمركز "ذات مصر"، تضمن تصريحات لمدير المركز ورئيس تحريره صلاح الدين حسين، وهو بحسب تعريفه الوارد في الموقع الرسمي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود، كاتب صحفي متخصص في الجماعات والحركات الإسلامية بمصر.
وأشار الباحث إلى أن تلك المراكز مثلت خطراً واضحاً على الأمن القومي المصري، بل يمكن القول إنها كانت تمثل اختراقاً للداخل المصري، من خلال سلسلة تقارير الحالة التي كانت تجريها لقياس ردود فعل الشارع المصري على مختلف القضايا المحلية والإقليمية، وهي أمور مريبة، خصوصاً عندما تجريها مراكز أبحاث ودراسات ممولة من الخارج، واستشهد الباحث بالأزمات التي وقع فيها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في تسعينيات القرن الماضي، حينما كان ينتج تقارير حالة ودراسات موجهة بالتعاون مع مؤسسات دولية مثل برنامج فولبرايت الأمريكي للتبادل الثقافي.
ولفت إلى أن أبوظبي استبقت الخطوات الأمنية المصرية بتحجيم عمل المنصات الإعلامية التابعة للإمارات، وتم إغلاق بعضها مثل المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، الذي كان يرأسه عبدالمنعم سعيد الباحث السياسي المعروف ورئيس مجلس إدارة الأهرام السابق، وبدلاً من إنشاء مراكز في العلن، اتجه الإماراتيون إلى التعاون مع باحثين بنظام "القطعة"، حيث يطلب منهم هاتفياً من أبوظبي إنجاز دراسات أو أبحاث معينة مقابل مبالغ مالية مغرية، وبالتالي يضمن الإماراتيون إنجاز الدراسات و"تقارير الحالة" التي يحتاجونها في السر بعيداً عن رقابة الأجهزة الأمنية ورجالها الذين كانوا يشرفون على تلك المراكز بالتنسيق بين أبوظبي والأجهزة السيادية المصرية.
4 مراكز أبحاث مصرية مستمرة منها 3 تتبع مؤسسة مؤمنون بلا حدود الإماراتية
من بين عشرات المراكز والمواقع والصحف والفضائيات التي ظهرت في مصر عقب ثورة يناير/كانون الثاني وتتلقى تمويلاً من حكومة أبوظبي، لم يبق سوى القليل منها لا يزال يعمل، وتمت تصفية مئات المصريين المتعاونين معها بدعوى الظروف الاقتصادية، لكن يبقى أبرزها المركز العربي للدراسات والبحوث الذي يديره عبدالرحيم علي، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الجهات الأمنية، قبل أن تنقلب عليه تلك الجهات قبل عدة شهور، حيث تم تسريب اتصال هاتفي له مع زوج ابنته، يدعي فيه أن لا أحد في مصر يستطيع الاقتراب منه وأن لديه وثائق تدين كل المسؤولين بمصر في حالة تفكير أحدهم في المساس به، حتى إنه قال في ذلك التسجيل حرفياً: "حتى عبدالفتاح السيسي ميعرفش يوديني النيابة".
ورغم سفر عبدالرحيم علي بعد انتشار التسريب الصوتي إلى فرنسا حيث لايزال يقم هناك بدعوى تلقيه العلاج، فإن المركز- كما قال أحد الباحثين العاملين فيه- لا يزال يعمل، لكن في الحدود الدنيا من النشاط بعدما تقلص تمويله إلى أقل من 10% مما كان عليه وقت إنشائه عقب ثورة يناير 2011، وهو ما اضطر المركز إلى التخلي عن عشرات الباحثين والصحفيين المتعاونين معه، وتخفيض رواتب ومكافآت من بقوا.
وأضاف الباحث: "في بداية إنشاء المركز كان يطلب منا دراسة كل أسبوع، والمقابل المادي كان سخياً، بينما الآن لا ينتج المركز كله سوى دراسة كل شهر وأحياناً كل شهرين، لمجرد الاستمرار في تلقي التمويل الضئيل الذي يتلقاه".
يذكر أن ما يتعرض له المركز جاء بعد فترة قليلة من خفض التمويل الإماراتي لصحيفة البوابة التي يرأس مجلس إدارتها وتحريرها عبدالرحيم علي نفسه، وهو ما دفع الأخير إلى تسريح عشرات الصحفيين العاملين بالصحيفة، وكانت تلك هي الأزمة الثانية التي تهدد استمرار المركز والصحيفة بعدما كان قريباً من الإغلاق عقب تورط المركز في شن حملة شديدة على السعودية إبان بعض الخلافات مع الإمارات عام 2016.
بخلاف المركز العربي هناك 3 مراكز نشطة حتى الآن في مصر، واللافت أن المراكز الثلاثة تابعة لمؤسسة مؤمنون بلا حدود الإماراتية، أولها مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي ومقره في حي جاردن سيتي الراقي بالقاهرة، ويتفرع منه مركز أبحاث يشار إليه باعتباره صحيفة إلكترونية هي صحيفة حفريات، أما المركز الثالث فهو مؤسسة ذات مصر للدراسات والأبحاث.
جدير بالذكر أن مؤسسة مؤمنون بلا حدود مؤسسة فكرية بحثية إماراتية التمويل تجمع ثلة من الناشطين والباحثين في مجالي الفكر والثقافة، مقرها الرئيسي بمدينة الرباط في المغرب، ولها عدة فروع ومكاتب تنسيق في بعض الدول العربية، وكانت المؤسسة قد جمدت أنشطتها ومراكزها بالمغرب في شهر مايو/أيار من العام الماضي (2020)، بسبب ما أعلنت أنه عسر مالي عقب توقف الدعم الحكومي الإماراتي لها، وهو القرار الذي قوبل بغضب شديد، من حكومة المغرب والباحثين المغاربة المتعاونين مع المؤسسة، وأرجع بعضهم ذلك القرار إلى التوتر الكبير الذي عرفته العلاقات المغربية الإماراتية، بسبب الموقف المغربي المحايد من أزمة الحصار الرباعي لقطر، وعدم رضوخ القرار المغربي للإملاءات الإماراتية.
وعلق عبدالرحيم المنار السليمي، رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني، على قرار التجميد، بقوله، إن "مؤمنون بلاحدود" ليست "مؤسسة بحثية علمية كما يعتقد، بل هي ذراع اختراق إماراتية للمغرب"، مؤكداً أن المؤسسة الإماراتية "فشلت في اختراق الزوايا المغربية (الصوفية)، وحاولت التسرب إلى بعض الجامعات المغربية مثل القاضي عياض بمراكش، كما أنها استعملت في الترويج لأفكارها بعض النخب التي كانت تعتقد أنها نافذة في بعض الأحزاب السياسية"، مضيفاً أن المؤسسة لها هدف واحد يتمثل في محاولة الحفر بأدوات ناعمة ولكنها خطيرة، في محيط الحقل الديني المغربي بحجة العقل والحداثة.
تقليص ميزانيات المنصات الإعلامية المصرية.. هل هي سياسة إماراتية لتأليب الصحفيين ضد السيسي؟!
لم تكن المراكز البحثية فقط هي من تأثر بالتوتر الإماراتي المصري، وهو بالمناسبة ليس جديداً وإنما بدأ قبل 5 سنوات، بسبب اختلاف وجهات النظر من الأزمة في ليبيا، وتباطؤ الإمارات في تنفيذ بعض المشروعات الاقتصادية التي تم الاتفاق عليها في مصر، وامتد التأثير إلى العديد من المنصات الإعلامية الممولة من الإمارات، ومنها موقع العين الإخباري الذي تأسس عام 2015، حيث تم تخصيص ميزانية ضخمة لمكتب القاهرة الذي كان يمثل القوة الضاربة التحريرية في الموقع مع وجود شكلي لبعض المحررين بالعاصمة الإماراتية أبوظبي.
وقيل إن ميزانية المكتب بلغت في عام 2017 ما يزيد على 100 ألف دولار شهرياً، كما قامت إدارة الموقع الذي كان يتبع شركة المجال للإعلام التي يرأسها سلطان الجابري منسق العلاقات المصرية الإماراتية، وصاحب النفوذ القوي لدى المسؤولين المصريين.
لكن مع بداية عام 2018، فوجئ الصحفيون العاملون بالموقع والذين تجاوز عددهم في ذلك الوقت 300 صحفي ومونتير، بحملة استغناءات عن كثيرين منهم بداعي خفض الإنفاق، وامتدت عملية تصفية العاملين في الموقع بالقاهرة حتى تحولت ملكية الموقع إلى الشركة العالمية للاستثمارات الإعلامية، وهي إحدى شركات الشيخ منصور بن زايد آل نهيان شقيق ولي عهد أبوظبي، والذراع الاستثمارية للعائلة الحاكمة في الإمارة، والآن لم يعد باقياً في الموقع سوى 92 موظفاً فقط من ضمنهم الصحفيون.
أحد الصحفيين الذين تم الاستغناء عنهم من قبل إدارة الموقع، قال لـ"عربي بوست" بغضب واضح، إن "كل ما ساقته الإدارة ليس له أساس من الصحة، لأنه إذا كانت المشكلة اقتصادية كما زعموا، فكان الأولى الاستغناء عن عدد من العاملين في المقر الرئيسي بأبوظبي، خصوصاً أن ميزانية كل العاملين الذين تم الاستغناء عنهم في القاهرة، لا تتجاوز راتب 3 أو 4 أفراد فقط هناك، لكن الهدف فيما يبدو هو تصدير أزمة إلى مصر من خلال إيجاد مئات الأشخاص العاطلين بعدما كانوا يتقاضون رواتب جيدة جداً من عملهم في المنصات الإعلامية الممولة من الإمارات، حيث كنا نتقاضى رواتب مرتفعة ومكافآت منتظمة، لكن الآن ذهب كل هذا أدراج الرياح، وبالتالي نجحوا في خلق المشكلة، ولم لا خلق المئات من الأشخاص الناقمين على القيادة السياسية في مصر وتحديداً الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي تسبب في توتر العلاقات مع أبوظبي ومن ثم فقدانهم لمصادر دخلهم".
كذلك فقد طال التأثير مكاتب لصحف عربية تمولها الإمارات، مثل صحيفة العرب اللندنية التي يرأس تحريرها العراقي هيثم الزبيدي، وبعدما كانت الجريدة تغدق بالمكافآت السخية على الصحفيين الذين يتعاونون مع مكتبها في القاهرة، فوجئ هؤلاء قبل أكثر من عام، بتقليص لافت في المكافآت، لدرجة أن بعضهم تم تخييره بين تقاضي ربع ما كان يتقاضاه في السابق، أو الاستغناء عنه، فضلاً عن تغير توجه الصحيفة من الدعم اللامحدود للنظام السياسي المصري والرئيس عبدالفتاح السيسي إلى توجيه انتقادات مبطنة له، وبلغت العلاقة بين الصحيفة والأجهزة الأمنية المصرية حدها الأدنى في عام 2019، حينما تم حجب موقع الصحيفة في مصر دون إبداء أسباب، ولا يزال الحجب مستمراً حتى الآن.
قناة الغد العربي التي يرأس مجلس إدارتها محمد دحلان، القيادي المفصول من حركة فتح والمستشار السياسي لمحمد بن زايد، بينما يملكها الشيخ طحنون بن زايد، لم تسلم من تأثير التوتر المصري الإماراتي بدورها، رغم الزخم الهائل الذي رافق إنشاء مقرها الفرعي في القاهرة، حيث أسند الإشراف عليه للإعلامي عبداللطيف المناوي رئيس قطاع الأخبار في التلفزيون المصري في عهد الرئيس الأسبق مبارك، والمعروف بصِلاته النافذة مع الجهات السيادية المصرية.
وبعدما كان مقر القاهرة يحظى بدعم واضح من الملاك، حتى إنه تم نقل مقر العمليات الفنية للقناة من لندن إلى القاهرة، سرعان ما تراجع الدعم مع فتور العلاقات بين مصر والإمارات، وتم الاستغناء عن مئات العاملين في القناة؛ ما دفع المناوي للابتعاد عن الإشراف عن القناة.