منذ أن تجدد النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا، طُرحت وساطات إقليمية ودولية، لكنها لم تبارح محطة "طلب التهدئة" من البلدين.
وبالرغم من اتصالات كثيفة من الاتحادين الإفريقي والأوروبي وجنوب السودان، فإنها لم تثمر حتى الآن قبول الجارتين الجلوس إلى طاولة الحوار.
أثارت مبادرة دولة الإمارات العربية المتحدة لحل الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا في منطقة الفشقة الحدودية جدلاً واسعاً في السودان، ما بين رافضٍ ومتحفظٍ على بنود المبادرة، التي رفضها الجيش السوداني ومجلس السيادة، في وقت لم تفصح فيه الحكومة السودانية عنها بصورة رسمية حتى الآن، ولم تتم مناقشتها في جلسات مجلس الوزراء السوداني.
ونصت المبادرة الإماراتية، بحسب معلومات مؤكدة من قبل الوفد الحكومي، على "رغبة الإمارات في انسحاب الجيش السوداني إلى وضع ما قبل نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، وتقسيم الفشقة بنسبة 40% للسودان و40% للإمارات و20% للمزارعين الإثيوبيين، تحت إدارة مشروع استثماري تقيمه الإمارات في المنطقة الحدودية".
والنزاع في منطقة "الفشقة" الحدودية قديم، لكنه ظل بين مزارعين إثيوبيين وسودانيين، حيث يهاجم مسلحون إثيوبيون مزارعين سودانيين بغرض السلب والنهب، وكثيراً ما سقط قتلى وجرحى، وفق الخرطوم.
وتتميز أراضي "الفشقة" السودانية، البالغة مساحتها 251 كيلومتراً مربعاً، بخصوبتها الزراعية، وهي مقسمة إلى ثلاث مناطق: "الفشقة الكبرى" و"الفشقة الصغرى" و"المنطقة الجنوبية".
ويتهم السودان الجيش الإثيوبي بدعم ما يصفه بـ"الميليشيات الإثيوبية"، وهو ما تنفيه أديس أبابا، وتقول إنها "جماعات خارجة عن القانون".
تقول مصادر إن الإمارات قامت بهذه المبادرة لدعم مصالحها مع إثيوبيا لزيادة نفوذها في المنطقة، خاصة مع وجود أنباء عن وجود استثمارات لها داخل إثيوبيا بجانب إسرائيل، مشيرين إلى أهمية منطقة الفشقة الجغرافية من حيث تميزها بخصوبة الأراضي الزراعية التي تبلغ أكثر من 6 ملايين فدان صالحة للزراعة.
المنطقة الاستثمارية تضم مساحات زراعية كبيرة غير مستغلة كلياً وتعتبر أرضاً بكراً لم تتم زراعتها من قبل.
في 15 من أبريل/نيسان أعلن وزير الدفاع السوداني الفريق ياسين إبراهيم موقف بلاده من المبادرة الإماراتية لأول مرة، وتمسك السودان بحقه القانوني في الأراضي السودانية، وأكد ياسين أن السودان رهن موقفه من المبادرة بوضع العلامات الحدودية وفقاً لاتفاقية 1902م كأساس لأي تعاونٍ أو تفاهمات لاحقة.
أطماع للإمارات في شرق السودان
تقول مصادر "عربي بوست" إن الإمارات لديها أطماع في منطقة شرق السودان، وتبحث عن موطئ قدم في المنطقة، بيد أنها فوجئت بالرد السوداني، وتمسك السودان بحقه في تلك الأراضي.
وصوّب عضو مجلس السيادة الانتقالي السوداني الفريق مالك عقار، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، الذي وقع على اتفاقية جوبا للسلام في أكتوبر /تشرين الأول الماضي في جوبا عاصمة جنوب السودان، انتقادات حادة لدولة الإمارات، رافضاً تدخلها في الشؤون الداخلية للسودان، معلناً رفضه القاطع للمبادرة الإماراتية لحل النزاع بين السودان وإثيوبيا حول منطقة الفشقة.
وقال عقار في ندوة مركز دراسات وأبحاث القرن الإفريقي حول العلاقات السودانية الإريترية في الأيام القليلة الماضية: "الإمارات تريد أن تقسم أرضنا ولن نقبل بذلك".
أكد عقار عدم وجود أي نزاع في الفشقة، وأنها أرض سودانية مئة بالمئة، ومثبتة منذ عهد المستعمر البريطاني في العام ١٩٠٢م، منوها بأن الحكومة السابقة بقيادة الرئيس السابق عمر البشير هي التي خلقت الأزمة، ووضعت العراقيل لعملية ترسيم الحدود بين السودان وإثيوبيا، مؤكداً أن منطقة الفشقة الحدودية خضعت إلى مساومة سياسية مع إثيوبيا، عندما كان يقود هو الجيش الشعبي لتحرير السودان في حربه مع الحكومة السابقة قبل انفصال جنوب السودان في يونيو/حزيران ٢٠١١م، و"إنه يعلم ذلك جيداً"، حسب تعبيره.
خلافات داخل "الانتقالي" بشأن استثمار الأراضي السودانية
وكشف مصدر مطلع لـ"عربي بوست" أن مجلس الأمن والدفاع السوداني ناقش المبادرة الإماراتية في اجتماعه الأخير ولم يتم التوصل إلى نتائج أو قرار بشأنها، وتمسك السودان بضرورة وضع العلامات الحدودية بين البلدين والالتزام باتفاقية 1906م.
وأضافت المصادر أن هناك خلافات داخل الحكومة الانتقالية بشأن بند استثمار الأراضي السودانية لصالح إثيوبيا في منطقة الفشقة، خاصة من جانب حركات الكفاح المسلح التي وقعت على اتفاق جوبا للسلام، وأشارت إلى أن السودان يتحفظ على استثمار الأراضي السودانية من قبل الجانب الإثيوبي، من دون وضع العلامات الحدودية التي من المفترض أن يتم بموجبها معرفة الحدود والاعتراف بها.
وقال مبارك النور، عضو دائرة الفشقة في البرلمان السابق، لـ"عربي بوست"، إن المبادرة الإماراتية مرفوضة رفضاً تاماً من قبل مواطني الفشقة بولاية القضارف.
ولفت مبارك إلى الضرر الذي تعرض له مواطنو الفشقة جراء الاحتلال الإثيوبي وسيطرة قوات الفشقة، وهي قوات غير نظامية تعمل على حماية المزارعين الإثيوبيين الذين يستغلون الأراضي طوال الفترة الماضية، منوهاً بالخسائر الكبيرة التي تعرضت لها مزارع الفشقة على الشريط الحدودي، والتي بلغت نحو 30 مليار دولار طوال السنوات الماضية، مؤكداً أن أراضي المزارعين السودانيين نهبت بمحاصيلها وآلياتها الزراعية، بالإضافة إلى قتل البعض، وطالب النور الحكومة الإثيوبية بدفع هذه التعويضات للمزارعين.
وقال إن السودانيين سيزرعون أراضيهم في موسم الخريف المقبل للحفاظ على الأراضي التى حررها الجيش السوداني، منوهاً بأنه تم استرداد 75% من الأراضي التي سيطرت عليها القوات الإثيوبية، وتابع بالقول إننا نحتاج لتنمية وتوطين المواطنين في الشريط الحدودي وتسليم الأراضي لأصحابها لزراعتها.
وناقش مجلس الوزراء تقرير اللجنة الفنية التي تشكلت من الوزارات ذات الصلة للتعاطي مع مبادرة الإمارات للوساطة بين السودان وإثيوبيا في قضية الحدود، وبين السودان ومصر وإثيوبيا حول قضية سد النهضة، ورحب بالمبادرة من حيث المبدأ في إطار الحفاظ على المصالح الوطنية العليا للبلاد.
محاطة بالسرية
وأُحيطت المبادرة بطوق من السرية والتكتم، خاصة أن بنودها تفضي إلى التفريط في أراضي البلاد، وأن الجانب الإثيوبي لم يعلق على النقاط الواردة في المبادرة؛ لأن الاتفاق يعتبر اعترافات ضمنياً بحقه في الاستفادة من تلك الأراضي.
وبحسب محللين سياسيين، فإن الوفد الحكومي الذي سافر إلى الإمارات كان قد أعلن قبل سفره عن موافقة الخرطوم وقبوله مبدئياً بالوساطة الإماراتية، وبحسب المصادر، فقد أبدى الوفد تأكيد حسن النوايا ومراعاة حسن الجوار والتمسك بالحلول السلمية عبر الحوار، ولكنه فوجئ بالشروط التي وضعتها المبادرة.
يذكر أن الوفد الذي سافر للإمارات تكوّن من وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي، ووزير الدفاع الفريق ياسين إبراهيم، ووزير العدل نصر الدين عبدالبارئ، ونائب مدير جهاز المخابرات الفريق أحمد إبراهيم، ومفضل ومفوض مفوضية الحدود معاذ تنقو.
وقال قيادي في التحالف الحاكم (الحرية والتغيير) إن الإمارات عرضت على حكومة السودان تقسيم أراضي الفشقة مقابل تصفير الأزمة مع إثيوبيا.
فيما قال مصدران لـ"دارفور 24″ إن المبادرة نصت على انسحاب الجيش إلى وضع ما قبل نوفمبر/تشرين الثاني وتقسيم الفشقة بنسبة 40% للسودان و40% للإمارات و20% للمزارعين الإثيوبيين تحت مشروع استثماري تقيمه الإمارات.
وأعاد الجيش السوداني انتشاره على الحدود الإثيوبية نوفمبر/تشرين الثاني 2020، منهياً بذلك 20 عاماً من السيطرة الإثيوبية على الأراضي السودانية.
وكشف مصدر مطلع بالمجلس المركزي للتحالف الحاكم عن مغادرة وزير العدل نصرالدين عبد البارئ إلى الإمارات برفقة وفد كبير للنظر في بنود المبادرة، لافتاً إلى أن "التفويض الممنوح للوفد أن الفشقة أرض سودانية لا نقاش حولها"، معتبراً أن المبادرة الإماراتية رُفضت في ساعتها.
لكن مصدراً حكومياً قال لـ"دارفور24″ إن مجلس الأمن والدفاع كان ينبغي أن يبت في الأمر في اجتماعه الأخير، إلا أن أحداث الجنينة فرضت تغيير أجندة الاجتماع، في إشارة إلى أن العرض قابل للنقاش حوله.
وقال معاذ تنقو، رئيس مفوضية الحدود، إن لديهم ثوابت أساسية في التعامل مع قضية الحدود، والتي تشمل اعتراف إثيوبيا باتفاق الحدود ١٩٠٢، ووضع العلامات على الأرض.
ويتضح من خلال رصد كل التصريحات اتفاق المواطنين والمسؤولين السودانيين على عدم التنازل عن الأرض. ويبدو أن السودانيين يستمدون هذا الموقف من نشيدهم الوطني الذي يقول في أحد أبياته: "هذه الأرض لنا"، وهي العبارة السودانية التي تحطمت على صخرتها المبادرة الإماراتية.