تحولت تعليمات منظمة الصحة العالمية حول أهمية استخدام المعقمات والكحول في الوقاية من فيروس كورونا المستجد إلى مصدر للثراء لدى بعض التجار المصريين.
بعضهم من المصانع المتخصصة بالفعل في إنتاج هذه الأشياء، وأغلبهم من "الدخلاء" الذين وجدوا في الأزمة وإقبال الناس على شراء المعقمات وسيلةً للدخل السريع، من خلال منتجات يتم تصنيعها فيما يُصطلح على تسميته "مصانع بئر السلم" التي لا تخضع لرقابة ولا تقع تحت طائلة الضمائر.
وكانت دراسة أعدها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء مؤخراً لقياس أثر فيروس كورونا على حياة الأسر المصرية، كشفت عن أن هناك ارتفاعاً في استهلاك الأسر لبعض السلع غير الغذائية، حيث ارتفعت نسبة الأسر التي زاد استهلاكها من الأدوات الطبية (قفازات/ كمامات) بنسبة 25.7% (حيث بلغت النسبة 46.5% في الربع الأول من عام 2020 إلى 69.3% في الفترة الثانية إلى 72.2% في الفترة الثالثة)، كذلك ارتفعت أيضاً نسبة الأسر التي ارتفع استهلاكها من المنظفات والمطهرات بنسبة 5.5% بالمقارنة في الفترات الثلاث.
وفي ظل التكالب على شراء المطهرات في وقت يعاني فيه الكثيرون من أزمات معيشية متنوعة في الفترة الأخيرة، وبالتالي يبحثون عن المنتجات الأرخص سعراً، تغافل المستهلكون عن المواصفات القياسية التي يجب توافرها، فكل ما يعنيهم هو سعرها المنخفض عن أسعار الصيدليات والشركات الكبيرة، ما أعطى الفرصة لتجار الأزمات للتلاعب في مكونات تلك المطهرات أو تقليد المنتج الأصلي، حيث تفتقد للمادة الفعالة في مكافحة الفيروسات، والأهم هو تسببها في أمراض صدرية وجلدية وسرطانية لبعض المواطنين.
"عربي بوست" في مصانع بئر السلم
بمجرد أن دلفت أقدامنا إلى أزقة شارع باب البحر القريب من ميدان رمسيس وسط القاهرة، زكمت أنوفنا رائحة قوية اكتشفنا أن مصدرها عبوات بلاستيكية وزجاجية فارغة يجري تدويرها لإعادة استخدامها في تعبئة المعقمات المستخدمة لمكافحة فيروس كورونا، وبعضها تطابق شكّلها مع علب الكحول المرخصة التي تباع بالصيدليات بتركيز 70%، وسعرها مملوءة يتراوح بين 20 إلى 30 جنيهاً، حسب حجمها.
ورصد "عربي بوست" سيدات ورجالاً كثراً يفترشون الأرصفة في المنطقة لبيع الصابون السائل والمعقمات المنزلية والكحول السائب وزجاجات خالية يتم تجميعها من القمامة لإعادة استخدامها وملئها، في ظل إقبال عدد كبير من المواطنين على الشراء، أما الرقابة فلم نجد لها أثراً، والغريب أن هذا يتم في مناطق مجاورة لمديرية أمن القاهرة، وعندما سأل "عربي بوست" أمين شرطة متواجداً في المنطقة ألقى المسؤولية على مباحث التموين وجهاز حماية المستهلك.
بداخل محل صغير، رصدنا شخصاً في العقد الرابع من العمر يقف أمام عدد من البراميل البلاستيكية زرقاء اللون مليئة بسوائل للتعقيم وعلى كل برميل ورقة باسم المنتج؛ صابون سائل، ديتول، كلور، فضلاً عن جراكن صغيرة مكتوب عليها لإزالة البقع أو للقضاء على الفيروسات وهكذا، ويتوافد على المحل "أثرياء وفقراء" للشراء.
يشير الأربعيني إلى أحد البراميل موضحاً أن لديه فنيكاً سائباً (مادة سامة تُستخدَم في تطهير الأرضيات والقضاء على الحشرات)، و"كحولاً إيثيلياً" معقماً للأيدي والأسطح للوقاية من العدوى بفيروس كورونا.
ويؤكد أن هناك إقبالاً واضحاً على شراء منتجاته بعد ذروة انتشار فيروس كورونا المستجد في موجته الأولى، ونقصها في الصيدليات، شارحاً أن الأثرياء يشترونها للعاملات بمنازلهم لتعقيمهن، بينما يشتريها الفقراء في محاولة يائسة لمساعدتهم في الوقاية من الوباء.
عرض علينا البائع بضاعته من عبوات فارغة شفافة غطاؤها ليس مضغوطاً أو محكم الإغلاق سعة 50 مل، 100 مل، و150 مل، تتراوح أسعارها بين جنيهين ونصف للعبوة الصغيرة وخمسة جنيهات ونصف للكبيرة، ولاحظنا أنه يتم تعبئتها يدوياً من دون أدنى مراعاة لشروط الصحة والنظافة.
حاول الرجل إقناعنا بشراء 100 عبوة مملوءة بالكحول بسعر 1000 جنيه، قائلاً إن ما لديه من كحول نسبة تركيزه لا تقل عن 70%، كاشفاً عن أن أغلب المحال الممتدة في الشارع نفسه، لديها كحول مخلوط بالماء وتنخفض نسب الكحول فيها إلى ما دون النسب القياسية، حيث يخلطونه بعشرة أضعافه من الماء.
ولمزيد من إقناعنا قال: "يمكن تتأكدوا"، وقام برش يديه فتبخر الكحول في الحال، شارحاً أن "المضروب لا يتبخر بسبب خلطه بالماء ورائحته ليست قوية مثل الكحول النقي".
حديث الرجل حفزنا على التجول في الأزقة المجاورة والبعيدة عن الأعين، فلاحظنا انتشار محال تحتوي على جراكن متراصة لا تحمل أي بيانات أو ماركة مسجلة لبيع الكيماويات، وعبوات عليها لاصق مكتوب عليه "كحول تركيز 70% بلا اسم شركة مصنعة ولا أي معلومات، كما هي عبوات الكحول المعروفة".
محاسن، السيدة الريفية الأربعينية، التي تقطن بحي الهرم بعدما جاءت من محافظة الشرقية لتعيش مع زوجها الذي يعمل حارساً لإحدى البنايات في منطقة كفر طهرمس، لم تكن تعلم أن العمل في تنظيف المنازل سعياً خلف لقمة العيش هو بداية لرحلة طويلة من المعاناة بسبب المرض الذي نهش جسمها.
اشترطت صاحبة البناية على الزوجين تلبية طلبات السكان مقابل السكن في البدروم، وكان على محاسن الصعود يومياً إلى بعض شقق البناية لتنظيفها وتعقيمها وغسل الأواني مقابل مبلغ زهيد، ومؤخراً ظهرت على السيدة أعراض لم تكن تشعر بها من قبل كضيق التنفس والتهابات شديدة باليدين وحساسية بالعينين، ولم تكن تعلم أن صابون الأواني السائل والمطهرات التي تنظف بها الأرضيات كالكحول والفينيك بغرض التعقيم، ستكون بداية لطريق طويل مع أطباء الصدر والجلدية ومؤخراً السرطان.
السيدة كما تقول ليس لها تاريخ عائلي مع تلك الأمراض، ورغم ذلك أخبرها الطبيب المعالج لحالتها بأن التدهور الصحي سببه المطهرات المغشوشة التي تستخدمها في تنظيف المنازل، خاصة أنها أهملت علاج الالتهابات الجلدية الناتجة عن الاستعمال المستمر لتلك المواد.
"حسبي الله ونعم الوكيل".. كلمات أنهت بها الريفية حديثها، مشيرة إلى أن ربات المنازل اللاتي تعمل لديهن خصصن لها "جركن" منظفات ومعقمات بعينها تستخدمه، بينما يستخدمن هن وأولادهن نوعاً آخر سعره أعلى وبالتالي ليست له آثار جانبية.
عبوات مغشوشة لا تصلح للاستخدام الآدمي تباع في الأسواق بأسعار مغرية
اللافت أن هناك عبوات تحمل أسماء شركات معروفة ومعقمات متداولة بالصيدليات مثل ديتول أو بيتادين وغيرهما ولكنها غير أصلية، وبسؤال أحد العاملين عن مصدر العلبة أكد أنها "معبأة في شركات مستلزمات الأدوات الطبية لأنهم استطاعوا منذ بداية الأزمة الحصول على كميات كبيرة من الكحول من تلك الشركات بأسعار منخفضة".
بالبحث عن قصة الرجل اكتشفنا أن هيئة الدواء المصرية أعلنت منذ أسابيع سحب عبوات مغشوشة من مستحضر "Betadine Antiseptic Solution 120 ml" يستخدم كمطهر من السوق، وأشارت الهيئة في بيان لها إلى أن العبوات الأصلية لهذا المستحضر من إنتاج شركة النيل لصالح Mundipharma، وقامت بسحبها من الصيدليات وإعدامها حفاظاً على صحة المواطنين، وعندما علم بعض التجار بذلك قاموا بشرائها بأسعار زهيدة وبيعها على أنها أصلية.
يقول علي سالم، ويعمل كيميائياً، إن ارتفاع سعر عبوات المعقمات المعتمدة عالمياً والحاجة المستمرة إليها أعطى الفرصة لمصانع بئر السلم بتقليد المنتج الأصلى من خلال إضافة مواد كيميائية مجهولة المصدر ويعتمدون في هذه التركيبة على الرائحة النفاذة التي تتشابه كثيراً مع رائحة المنتج الأصلي وذلك كنوع من الخداع.
وأشار إلى أن مصلحة الكيمياء (جهة حكومية) مهمتها الكشف عن السلع ومعرفة إذا كانت مطابقة للمواصفات والجودة أم لا، وتصل إليها مئات العينات من الجهات المصادرة يومياً لتحليلها، وللأسف نتائج التحاليل تكشف أنها مغشوشة وبعضها عبارة عن كحول ميثانول لا يصلح للاستخدام الآدمي لاحتوائه على مادة سامة تضر البصر والجلد، ويتم إرسال نتائج التحاليل للجهات الأمنية لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.
منشآت حكومية ومستشفيات ومراكز تعتمد في عملية التعقيم على تلك المطهرات المغشوشة
شريف عمر (صيدلي) أوضح أن التجار يقومون بغش الكميات التي يحصلون عليها من "شركة السكر" المنتجة للكحول الإيثيلي ويخففونه بكميات كبيرة من المياه لكسب أرباح ضخمة.
وكشف عن أن هناك منشآت حكومية ومستشفيات ومراكز تعتمد في عملية التعقيم على تلك المطهرات المغشوشة، فضلاً عن أن هناك مدارس كثيرة جداً تتعاقد مع تجار لتوفير مستلزمات النظافة طوال العام بأسعار رخيصة، ومن بينها المطهرات ويتجاهلون التعامل مباشرة مع أصحاب الشركات المعتمدة والمعروفة لدى الحكومة ولا أحد يراقب أو يتابع ومن ثم تنتقل الفيروسات بين الطلاب.
يسخر الصيدلي من تعامل الأجهزة الرقابية بالتفتيش على الصيدليات، بينما في الجانب المقابل تتجاهل التفتيش على محال البقالة وبيع المنظفات، ويشير إلى أنه يتم تصنيع المطهرات المغشوشة وتعبئتها داخل عبوات أصلية، وعلى رأس قائمة المنتجات المقلدة "ديتول"، وهو منتج عالمي غالي الثمن، وهناك أيضاً البيتادين.
يعترف شريف بأن تجار منتجات التجميل يأتون للصيدليات ويعرضون المعقمات عليهم بأسعار أقل من سعر المنتج الأصلي بجنيه أو نصف الجنيه، وهو ما يعد مصدر دخل بعيداً عن أعين الرقابة والتفتيش الدوري، والأمر الذي يفاقم المشكلة أمام المواطنين أن جميع المحافظات المصرية تفتقد لنظام مغلق يمنع وصول المستلزمات الطبية والمطهرات المغشوشة إلى الصيدليات.
لا ينكر الصيدلي أن بعض الصيدليات لا تهتم إلا بتحقيق الأرباح وتعلم جيداً أن التجار يعرضون عليهم مواد معقمة مغشوشة تفتقد لدرجة التركيز المطلوبة بإضافة مادتي الميثانول والآسيتون للكحول الإيثيلي لزيادة كمياته، ومن ثم تصبح هذه المنتجات عديمة الجدوى في عمليات التعقيم.
ويشير إلى أن تدهور الحالة الاقتصادية والمستوى المعيشي المتدني أجبر المواطنين على اللجوء لسوق المنتجات المغشوشة وأصبح لها زبائن كثر تدفعهم لتجاهل الآثار الجانبية لاستعمالها.
أصحاب مصانع بئر السلم يؤمنون بأن منتجاتهم المغشوشة وسيلتهم لمساعدة محدودي الدخل!
على الطرف الآخر، كان لأصحاب مصانع بئر السلم غير المرخصة وجهة نظر مقتنعون بها وأغلبهم يرفعون شعار "على أد الإيد" أو أنها تباع بأسعار مناسبة لمحدودي الدخل، ويستغلون حاجة الأفراد وجهل معظمهم بطبيعة وكيفية استخدام هذه المواد، ويقومون بإيهامهم أن المنتجات التي يبيعونها تستهدف مواجهة الغلاء وجشع التجار.
ميرفت وزوجها نموذجان لآلاف من المصريين فقدوا عملهم بسبب التبعات الاقتصادية لأزمة فيروس كورونا، ولم يجد الزوجان سوى ابتكار عمل حيث تقوم الزوجة بصناعة الصابون السائل في المنزل ويتولى الزوج مهمة التوزيع والبيع بالإضافة إلى مبيض الملابس أو المُطهرات المنزلية السائلة والديتول والفنيك ومعطر الأرضيات ومنظف السجاد، ويضعونها في أكياس بلاستيكية شفافة يتراوح سعرها بين 4 و6 جنيهات للتر الصابون السائل، والكحول بسبعة جنيهات ومثله الفنيك.
تعتمد السيدة في صناعة الصابون -كما قالت لـ"عربي بوست"- على ملح وألوان مختلفة والسليكات والصودا الكاوية وروائح مختلفة ليمون وتفاح وخوخ، وتقول إن الجميع يقبل على شراء منتجاتها لأن أسعارها تناسب البسطاء من المستهلكين وأقل من ربع سعر المنظفات التي تباع في محال السوبر ماركت الكبيرة.
لا يقتصر البيع على قاطني الحي، بل يوزع الزوجان منتجاتهما على المدن والقرى بمختلف المحافظات، وتختلف الأسعار كما قالوا لنا وفقاً لطبيعة المكان، وعندما استفسرنا عن سبب عدم وجود مصنع لمنتجاتهم ما دامت جيدة بشهادة المستهلكين كما يقولون، كان رد الزوج حاداً لينهي الحديث: "من أين لنا هذا؟! المصنع في أي منطقة صناعية يتكلف ملايين الجنيهات ويحتاج للكثير من التراخيص بداية من سجل تجاري وموافقة الهيئات الصناعية والاشتراطات الصحية الخاصة بالمكان فضلاً عن الماكينات الخاصة بصناعة المعقمات والمنظفات السائلة والصلبة".
الأجهزة الأمنية تطارد أصحاب المعقمات المغشوشة وتطالب المواطنين بالإبلاغ عنهم
يؤكد مصدر أمني لـ"عربي بوست" أن مثل هؤلاء ليسوا بعيدين عن أعين الرقابة، مشيراً إلى مئات الحملات الأمنية والمداهمات المستمرة لمصانع بئر السلم، مطالباً المصريين بالتفاعل مع الأجهزة الأمنية لحماية حياتهم، باعتبار أن شكاوى المواطنين هي دليلهم للقبض على المخالفين، مؤكداً أنه تم ضبط آلاف العبوات البلاستيكية من الكحول معبأة وعندما أرسلناها لمصلحة الكيمياء جاءت النتيجة بأنها مخلوطة بمادة التنر السامة، موضحاً أن تلك الضبطية كانت في أحد المحال الكبرى المشهورة لبيع المنظفات، أي أن الأمر لا يقتصر فقط على الهواة.
يلقي المصدر اللوم على أكثر من جهة بسبب السماح بانتشار صناعة بئر السلم سواء بمنح الرخصة للمكان الذي يستغل في صناعة غير مرخصة أو بغض الطرف عنه، موضحاً أن مصلحة الكيمياء تمتلك قاعدة بيانات للمنشآت الصناعية المختلفة في جميع أنحاء الجمهورية وتقوم الأجهزة الرقابية والصناعية المختصة والتي تمتلك الضبطية القضائية ولها حق دخول المصانع بالتفتيش وقتما تريد، لكن المشكلة أنهم لا يستطيعون اقتحام محال البقالة أو محل خاص بصناعة وبيع المنظفات الصناعية السائلة؛ لأن ذلك من اختصاص ومهام وزارة التموين والتجارة الداخلية ولا يمكن التعدي على اختصاصاتها.
وبالرجوع إلى مصدر مسؤول بالإدارة المركزية للرقابة والمعاملات التجارية بوزارة التموين والتجارة الداخلية أكد أن عدد مصانع المنظفات السائلة المرخصة التي تخضع للرقابة والتفتيش يصل إلى 400 مصنع، والوزارة تقوم بدورها على أكمل وجه وتراقب الأسواق للتأكد من مصدر السلعة، وذلك بالاطلاع على فاتورة الشراء التي تثبت مصدرها والتأكد من بيانات المنتج مثل اسم الشركة المنتجة وبلد الصنع وتاريخ الإنتاج والصلاحية، وفي حالة الشك أو عدم وجود فاتورة تثبت مصدر المنتج أو عدم وجود أي بيانات تجارية على العبوة يتم مصادرتها فوراً.
ويؤكد المصدر أن المخالفين يخضعون لقانون الغش التجاري رقم 48 لسنة 1941 والمعدّل 281 لسنة 1994 الذي يقول: "كل من صنع أو طرح أو عرض للبيع أو باع مواد أو عبوات أو العقاقير أو البيانات الطبية، ويعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تتجاوز 20 ألف جنيه، أو ما يعادل قيمة السلعة موضوع الجريمة، أيهما أكبر، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من خدع أو شرع في أن يخدع المتعاقد معه بأية طريقة من الطرق".
لكن المشكلة أن الأجهزه الرسمية لا تستطيع مراقبة جميع الأسواق في الدولة، حيث يبلغ عدد المحال التي تباع بها مواد البقالة على مستوى الجمهورية حسب التعداد العام للسكان والإسكان والمنشآت لعام 2017 للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء 4,539,342 محلاً، منها 2,834,591 منشأة في المدن، وفي الريف يوجد 1,704,751 محلاً، وثلث تلك المحال يتاجر في المنظفات السائلة المجهولة بجانب البقالة.
معقمات مغشوشة أخطارها غير متوقعة
السيدة الأربعينية ليست إلا رقماً من ملايين يستخدمون منظفات ومعقمات صناعية مغشوشة لها أضرار صحية خطيرة، حيث حذّر المركز القومي للبحوث من انتشار المنظفات والمعقمات المغشوشة، لكونهما أحد أهم مسببات سرطان الجلد، لدى المصريين وخاصة السيدات.
يشير د. محمد. ج، باحث بالمركز، إلى أن الخطر يمتد لكل أفراد الأسرة، ويؤكد لـ"عربي بوست" أنهم أجروا العديد من الدراسات التي أثبتت أن الصابون السائل يسبب السرطان، حيث يظل عالقاً في الأواني حتى بعد غسلها، موضحاً أن بعض أنواع الصابون تحتوي على الكلور والمبيضات، ما يتسبب في العقم للنساء، إلى جانب سرطان الجلد، كما أن استخدام المطهرات المغشوشة بشكل مفرط يضعف قدرة السيدات على الحمل، كذلك تحتوي بعض المنظفات على مادة تسمى التريكلوسان، وتسبب السرطان، وتضر بالجهاز المناعي والعصبي.
وكان النائب محمد المسعود، عضو الهيئة البرلمانية لحزب مستقبل وطن، قد تقدم بطلب إحاطة موجّه لرئيس مجلس الوزراء ووزيري الصحة والتموين، بشأن انتشار مصانع منظفات صناعية لا تلتزم بالمواصفات القياسية ومنتجاتها مغشوشة تسبب أضراراً صحية، مؤكداً أن ملايين النساء المصريات معرضات للإصابة بأمراض جلدية خطيرة، لاسيما اللواتي يقضين وقتاً طويلاً في أعمال المنزل، كما حذرت شعبة الأدوية بالاتحاد العام للغرف التجارية من الانتشار غير المسبوق للمطهرات المغشوشة التي تباع على أرصفة الشوارع.
"عربي بوست" سأل مصدراً حكومياً بارزاً عن الدور الذي تقوم به الحكومة لمجابهة تلك الظاهرة، خاصة أن علاجها يكلف الدولة فاتورة باهظة، فقال إنهم بالفعل اتخذوا إجراء هاماً، حيث أصدر الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، قراراً رقم 17 لسنة 2020 "بتغليظ عقوبة غشّ الكحول والمطهرات وهي الحبس لمدة عام، ودفع غرامة مليون جنيها بدلاً من 10 آلاف جنيه، كما كان معمولاً به حتى يوم 16 أبريل/نيسان من العام الماضي".
الغريب أن تحذيرات الأطباء والبرلمانيين وسن القوانين لم يكن رادعاً لتجار المعقمات، وهو ما فسّره أحد المصادر بأن القضاء على الظاهرة يحتاج إلى يد من حديد تردع تلك التجارة، وهو ما يثير شبهة التضامن معهم، إما لأن هناك جهةً ما تساندهم وتستفيد من بقاء الوضع على ما هو عليه، خاصة أن وزارة الإنتاج الحربي دخلت في إنتاج تلك المواد المعقمة، أو لأن الأمر لا يعنيهم لأن تلك التجارة لم تَكُن من ضمن أنشطتهم، وبالتالي فإن احتكار الأسواق لها لا يمثل ضرراً عليهم واستخفافهم بأضرارها على المواطنين، وكما يقول بعضهم: "إيه المشكلة إنه يموت من الشعب مليونين أو ثلاثة من أكثر من ١٠٠ مليون".
طبيب: بعض المنظفات والمعقمات المغشوشة تعرّض مستخدميها للموت البطيء
محمد الجندي، استشاري الأمراض الجلدية، أكد لـ"عربي بوست" أن الغرض من المعقمات هو تطهير المسطحات، لكن المغشوش منها لا يقوم بهذا الدور، ويعرّض المستهلك لمرض التصبغ، وهو أشبه بحروق الشمس وأيضاً يؤدي لتشوهات جلدية مزمنة تحتاج شهوراً لعلاجها، والأخطر أنها تصيب أصابع اليدين والقدمين بتشققات من الممكن أن تتحور على المدى البعيد إلى سرطان الأطراف أو الجلد.
ويشير إلى أهمية أن تكون المطهرات حاصلة على الموافقات الرسمية لضمان سلامتها، فاستخدام الميثانول يسبب تهيجاً في الجلد وارتكارياً وتسمماً والتهابات في العصب البصري، وشدد على أهمية قراءة بيانات المنتج قبل شرائه وأن يكون من مصدر موثوق منه وخالياً من الميثانول القاتل.
وكشف عن أن هناك مصانع مرخصة تستخدم مواد خام مستوردة لكنها رديئة وأقل جودة بسبب سعرها المنخفض، والنتيجة هو خروج منتجات غير مطابقة للمواصفات. أما المصانع التي تعمل بدون ترخيص فتنتج معقمات تحتوي على نسب كبيرة من المواد الكيمائية لا تطابق المعايير الطبية والدوائية وليس عليها رقابة صحية وبدون إشراف الجهات المختصة، كالمطهرات الخاصة بتعقيم الأيدي ومنها الجيل، والكحول الخام، ومساحيق غسيل الملابس التي يبيعها التجار بالكيلو، بالإضافة إلى المواد الخام المباعة لتصنيع الصابون والكلور بالمنزل مثل السليكات والصودا الكاوية، والمواد الحافظة مثل الفورمالدهيد.
وأكد أن من يتعرض لوقت طويل للمنظفات السائلة المحتوية على تلك المواد يخوض موتاً بطيئاً، فمادة الفورمالين تسبب اضطراب وظائف الكبد والفشل الكلوي، فضلاً عن أن سليكات الصوديوم مادة ممنوعة من النصف الأول من القرن الماضي وتسبب تليف الرئة والسرطان. واختتم كلامه محذراً المواطنين من أن هناك حالات كثيرة ترددت عليه في الفترة الأخيرة أغلبهم من الأطفال لديهم التهابات شديدة في الجهاز التنفسي والرئتين، وحساسية جلدية وبعضهم مصابون بالإكزيما التلامسية، قائلاً: "إن لم تخافوا على أنفسكم خافوا على أولادكم".