على عكس الرواية المشهورة في كتب التاريخ المصري القديم، لم يكن الهكسوس غُزاة متوحّشين فقط، فتكوا بمصر وسيطروا عليها من خلال الحرب؛ بل يُعتقد وفقاً للأبحاث في أصولهم أنهم كانوا شعباً من المهاجرين الأجانب الذين نزحوا من وسط آسيا واستقر بهم الحال في بعض مدن الشام ومصر في القرن الثالث قبل الميلاد.
ويعني اسم الهكسوس أو Heqau-khasut وفقاً للتسمية الفرعونية القديمة "حُكّام الأراضي الأجنبية"، وقد تحولت وفقاً للتسمية اليونانية إلى Hyksos. ويُعتقد وفقاً للأبحاث والقراءات التاريخية، أنهم كانوا ملوكاً أو نُبلاء طُردوا ونزحوا من بلادهم بسبب الحروب.
الأصل العرقي للهكسوس
يختلف بعض المؤرخين حول الأصل العرقي الحقيقي والموطن الأصلي للهكسوس، فهناك روايات تقول إنهم من الشعوب الآرية التى كانت تسكن وسط آسيا. بينما هناك رأى آخر يشير إلى أنهم عرقٌ ساميّ استوطن في كنعان، وهي منطقة تشمل أجزاء من سوريا ولبنان وفلسطين حالياً.
إلا أن أرجح التفسيرات التاريخية وفقاً لموسوعة التاريخ القديم Ancient، تشير إلى أن الهكسوس كانوا مجموعة متنوعة من الأعراق التي سكنت مناطق في وسط وغربي آسيا، واضطرت للنزوح والهجرة تحت ضغط الغزوات القادمة من سكّان هضبة أرمينيا، والذين عُرفوا في التاريخ باسم قبائل الحوريين.
انتهى المطاف ليستقر الهكسوس في مناطق نهر الفرات الشمالية، قبل أن تسهم التجارة والهجرة في استقرار أعداد كبيرة منهم في مصر بمدينة أفاريس الساحلية (تل الضبعة في محافظة الشرقية اليوم).
ووفقاً للدلائل التاريخية، لم ينتمِ الهكسوس في مجملهم إلى عرق واحد، بل كانوا خليطاً من الآريين والساميين الذين استغلوا ضعف الدولة الفرعونية وأصبح لهم قاعدة قوية وسُلطة مستقلة عاصمتها أفاريس خلال انهيار الأسرة الثالثة عشرة في فترة المملكة الوسطى الفرعونية (بين 2040 و1782 ق.م). ثم ما لبث أن انخرطوا بشكل كامل في ممارسة الحياة السياسية.
تشويه مُتعمّد للهكسوس في الحضارة الفرعونية
وعلى الرغم من أن الكتبة والمؤرخين المصريين في المملكة الحديثة (بين 1570 و1069 ق.م) قاموا بتحريف حقيقة الهكسوس واعتبروهم "غُزاة احتلوا الأرض ودمّروا المعابد وذبحوا الناس وسبوا النساء"، إلا أنه لا يوجد دليل مادي وفقاً للدراسات التاريخية الحديثة على أي من هذه الادعاءات، بحسب موسوعة Ancient. بالطبع يمكن فهم كيف رآهم المصريون، ففي النهاية مثلوا احتلالاً لأراضيهم، لكنّ الدراسات الحالية لا تعطي نفس التصور عن شعب الهكسوس.
ويرجع المصدر الرئيسي للمعلومات عن الهكسوس في الكتابات المصرية القديمة إلى المؤرخ والكاهن مانيثو أو مانتيون، الذي عاش في عهد الملك البطلمي بطليموس الثاني في القرن الثالث ق.م، والذي فُقدت أعماله ولم يتم العثور سوى على اقتباسات منها في كتابات مؤرخين آخرين مثل الروماني اليهودي يوسيفوس فلافيوس (37 – 100 ميلادياً).
وقال مانيثو عن الهكسوس في بردية تورين -التي تُعد فهرساً لفترات الحكم في مصر القديمة- وفقاً لتحقيق بحثي بجامعة هارفرد، إنه "في عهد الملك توتيمايوس (الملك الـ37 من ملوك الأسرة الـ13 في عهد الدولة الوسيطة) حَلَّت بنا ضربة من الرب، وفجأة تقدم غزاة من إقليم الشرق من جنس غامض إلى أرضنا".
وتابع المؤرخ المصري القديم: "استطاعوا بالقوة أن يتملَّكُوها في سهولة، ولمَّا تغلبوا على حكام الأرض أحرقوا مدننا بغير رحمة، واستولوا على أرض معابد الآلهة وعاملوا المواطنين بعدوان قاس، فذبحوا بعضهم وأسروا زوجات آخرين واستعبدوا الأطفال"، وقال إن الهكسوس قد عيّنوا من بينهم ملكاً يدعى ساليتيس فرض الضرائب على مصر العليا والسفلى.
لكن على عكس ادعاءات كتبة الدولة وحتى المؤرخين اللاحقين في القرن العشرين الميلادي، لم تكن الفترة الانتقالية الثانية لمصر التي شهدت سلطة الهكسوس، فترة فوضى وارتباك؛ بل امتد نفوذهم فيها إلى أقصى الجنوب حتى أبيدوس (غرب محافظة سوهاج اليوم)، وفي منطقة مصر السفلى.
وبمجرد تأسيس عاصمتهم في أفاريس، حاول الهكسوس النهوض بمستعمرتهم الجديدة مصر من خلال التجارة، والتي كانت تشهد ضعفاً في عهد الأسرة الثالثة عشرة كما أسلفنا. كما اعتمد الهكسوس العادات واللباس المصري في محاولة منهم ربما لاعتناق العادات المصرية للتقليل من مقاومة المصريين لهم.
كما دمج الهكسوس عبادة الآلهة المصرية في معتقداتهم وطقوسهم الخاصة، فكانت آلهتهم الرئيسية هي بعل وعناة -كلاهما من أصل فينيقي/كنعاني/سوري وتمت عبادتهما في بلاد الشام وآسيا الصغرى في تلك الفترة- وقاموا بربطها بالآلهة المصرية القديمة من الحضارة الفرعونية، بحسب كتاب تاريخ مصر القديمة لجامعة أوكسفورد عام 2017.
إخفاء كامل لفترة الهكسوس من التاريخ المصري القديم
أسس حكام الهكسوس الأسرة الخامسة عشرة في التاريخ المصري القديم، بعد عقود من الحياة والاندماج في المملكة الفرعونية. ولكن بعد طردهم، تم محو آثارهم من التاريخ المُدوّن، ما يجعل محاولات تتبع آثارهم وتفاصيل فترتهم من الأبحاث المُحيّرة لعلماء التاريخ اليوم.
وعُرف أسماء عدد محدود جداً من ملوك الهكسوس من خلال أنقاض النقوش وغيرها من الكتابات الموجودة في مدينة أفاريس وما تبعها من مدن سيطر الهكسوس على حكمها، ومنهم صقر هار وخيان وخامودي، وأشهرهم أبيبي أو Apepi.
وعُرف Apepi أيضاً باسم Apophis وله اسم مصري مرتبط بالثعبان العظيم Apophis / Apep، أي عدو إله الشمس رع. ومن المحتمل أن يكون هذا الملك، الذي يُزعم أنه بدأ الصراع بين أفاريس وطيبة العاصمة التقليدية للحكم الفرعوني، قد سمي بهذا الاسم من قبل الكتبة اللاحقين لربطه بالخطر والشر.
لكن لا يوجد ما يشير بشكل حقيقي إلى أن Apepi كان ملكاً طاغية؛ بل ازدهرت التجارة في عهده وفقاً لموسوعة التاريخ القديم Ancient. وقد عقد الحُكّام المحليون لمدن وبلدات الوجه البحري المصري معاهدات مع الهكسوس، ما زاد من ازدهار التجارة في ذلك الوقت.
وحتى العاصمة المصرية طيبة، التي اعتبرت آخر معقل للحُكم الفرعوني التقليدي والصرح الآخير أمام غزو الهكسوس، كانت لها علاقة قوية ومزدهرة في بعض الأحيان تجارياً مع أفاريس، عاصمة الهكسوس الفعلية.
تعاون وعلاقات تجارية بين الهكسوس وطيبة
في نفس الوقت الذي كان فيه الهكسوس يكتسبون السلطة في شمال مصر، كان النوبيون يفعلون ذلك في الجنوب. وقد تجاهلت الأسرة الثالثة عشرة في عهد الدولة الفرعونية الوسيط، حدودها الجنوبية تماماً كما فعلت مع مصر السفلى، واكتفت بممارسة سلطتها من خلال العاصمة طيبة فقط.
وعلى الرغم من أن طيبة ظلت عاصمة الحكم المصري التقليدي، لكن بدلاً من حكم البلاد بأكملها كانت محاصرة بين الهكسوس في الشمال والنوبيين في الجنوب، مع الإبقاء على علاقات جيدة بشكل خاص مع أفاريس بحُكم العلاقات التجارية.
وتوضح أبحاثٌ في المصريات عن فترة الدولة الوسيطة من تاريخ مصر الفرعوني أن طيبة حظيت بحرية التجارة في الشمال، واستخدم الهكسوس نهر النيل وصولاً إلى طيبة للتجارة مع الحُكم النوبي في الجنوب.
وقد استمرت التجارة بين العاصمة النوبية كوش، والحُكم المصري التقليدي في طيبة، وأفاريس عاصمة الهكسوس بشكل متساوٍ إلى أن أهان أحد ملوك الهكسوس -عن قصد أو بغير قصد- ملك طيبة.
بداية الخلاف مع الهكسوس
على الرغم من عدم وجود أدلة قاطعة على صحة القصة، لكن وفقاً للمؤرخ والكاهن المصري القديم مانيثو، أرسل ملك الهكسوس أبيبي رسالة إلى ملك طيبة سقنن رع (المعروف أيضاً باسم تاو) حوالي عام 1580 ق.م، قال فيها: "تخلص من أفراس النهر التي تقع في شرق مدينتكم، لأنها تمنعني من النوم ليلاً ونهاراً".
ومن المُرجح أن الرسالة كانت استفزازية بغرض استنكار ممارسة رياضة صيد فرس النهر في طيبة التي كانت شائعة في ذلك الوقت، والتي كانت تهين الهكسوس الذين أدرجوا فرس النهر في ديانتهم، من خلال عبادتهم لـ ست، إله الحرب والرياح والفوضى.
وبدلاً من الامتثال للطلب أو التوصل إلى اتفاق، اعتبر الفرعون المصري سقنن رع أن الرسالة تمثل تحدياً لسلطته وتجاوزاً لما هو مسموح به. ومن هنا اندلعت الحرب بين قوات الدولة التقليدية والهكسوس في معركة حاول فيها الملك تاو استعادة السيطرة على أفاريس، لكنه خسر وقُتل في المعركة وفقاً لأبحاث بريطانية بالأشعة السينية على رفاته في عام 2020، كشفت أنه قُتل نتيجة ضربات حادة في الرأس بفؤوس تُماثل تلك التي كان يتم استخدامها في حضارات آسيا الوسطى، وفقاً لمركز الأبحاث الأمريكي في مصر ARCE.
وبعد وفاة الملك سقنن رع، تولّى ابنه الأكبر كاموس آخر ملوك الأسرة السابعة عشرة (نحو عام 1575 ق.م) قضية والده، وأصبح طرد الهكسوس من البلاد أكبر أهداف فترة حكمه التي امتدت ثلاث سنوات تقريباً.
وقد شكا الملك كاموس في نقشٍ فرعونيّ قديم من "دفع ضرائب الآسيويين" والاضطرار إلى التعامل مع الأجانب في شمال وجنوب بلاده.
وقد شن حملات عسكرية ضخمة على الهكسوس تم فيها، وفقاً للرواية المصرية القديمة، تدمير أفاريس عاصمة الهكسوس.
كما ذكرت النقوش الفرعونية أنّ هجوم حملة كاموس على مدينة أفاريس كانت سريعة ومرعبة إلى درجة أنها جعلت نساء الهكسوس عقيمات، وتمت فيها تسوية المدينة بالأرض.
لكن على الأرجح أن هذه النتائج كانت نوعاً من المبالغات لأنه وفقاً لخبراء المصريات بحسب موسوعة Ancient، كان الهكسوس لا يزالون يسيطرون على مصر السفلى في السنوات الثلاث التي أعقبت هجوم كاموس، وظلت أفاريس عاصمتهم إلى حين تولّي شقيقه الأصغر أحمس الأول، حُكم مصر.
الحرب ضد الهكسوس في عهد أحمس الأول
يضع العديد من العلماء تواريخ مختلفة لتحديد عهد الملك أحمس الأول، لكنه على الأرجح أصبح حاكماً لمصر عام 1550 ق.م، وهو في سن العاشرة تقريباً، وأسس بذلك الأسرة الثامنة عشرة وحَكَم المملكة 25 عاماً حتى وفاته، وفقاً لموسوعة التاريخ العالمي Ancient.
وكتبت المؤرخة مارغريت بونسون، بالاعتماد على قصة "لوح أحمس" في معبد الكرنك، كيف "قام أحمس الأول بإخراج (الآسيويين) من مصر، وطاردهم إلى شاروهين (فلسطين) ثم إلى سوريا"، بحسب الموسوعة Ancient.
وتشير النقوش المأخوذة من قبر أحمس الأول، في الدير البحري غرب ضفة النيل أو مدينة طيبة قديماً، إلى وقوع معركتين في أفاريس إلى حين السيطرة عليها؛ إذ تمت بالفعل هزيمة الهكسوس وفقدوا سيطرتهم بشكل نهائي على أفاريس في عهد أحمس الأول، وفقاً لموسوعة التاريخ الفرعوني عن الفترة الوسيطة لحكم مصر القديمة.
وقال المؤرخ الروماني يوسيفوس في القرن الـ37، بحسب مجلة Scientific American العلمية: "جيش أحمس الأول الذي بلغ عدده 48 ألف جندي، حاصر جدران عاصمة الهكسوس وحاول أن يجعلهم يستسلمون. وفي النهاية عقد معاهدة معهم، وغادرت بموجبها أفواج بلغ عددها 240 ألف شخص من مصر".
أثر الهكسوس في مصر الفرعونية
لقد صوّر الفن المصري في عهد الدولة الحديثة، الملوك مثل توت عنخ آمون أو رمسيس الثاني، في عربات حربية أو خلال رحلات صيد لهم مع الكلاب. ومع ذلك، لم يكن لدى المصريين علم بهذه التقنيات والوسائل حتى فترة اندماج الهكسوس في الحضارة الفرعونية.
وعرف المصريون القدماء من خلال الهكسوس سلاح القوس المركّب، بمدى ودقة أكبر بكثير من الأقواس التقليدية. وعرفوا منهم أيضاً الخناجر المصنوعة من البرونز، والسيوف القصيرة، والعديد من الابتكارات الحربية الأخرى.
ووفقاً لموسوعة Ancient، تم إدخال طرق جديدة لري المحاصيل في مصر من خلال الهكسوس، وكذلك طرق جديدة لصب وتشكيل البرونز. كما نتج بعد استخدام ابتكاراتهم في عجلات الفخار والخزف، استحداث أنواع جديدة من السيراميك العالي الجودة والأكثر متانة. وعرفوا من خلالهم النول العمودي، الذي أنتج أقمشة كتان أفضل جودة.
ومع ذلك، يعتبر الأثر الأكبر الذي تركوه في الحضارة الفرعونية هو إعلاء "القومية المصرية" التي ظلت في أوجها على مدار فترة المملكة الحديثة التي أسسها أحمس الأول، وأدت لاحقاً إلى توسعة الإمبراطورية لضمان حماية أطرافها من أي غزوٍ مُحتمل. لتُصبح مصر في عهد أحمس الأول الذي بدأ هذا العهد الجديد في تاريخ مصر القديم، دولة موحدة من مصر العليا والسُّفلى عاصمتها طيبة. ممتدة لتشمل شمال المملكة، أي سوريا اليوم، وجنوباً لتضُم ممالك النوبة. كما امتدت حدود الإمبراطورية المصرية في عهده إلى الأردن في الشرق وليبيا في الغرب.
أين استقر الهكسوس بعد طردهم من مصر؟
في نقوشٍ فرعونية عُثر عليها في قبر جندي مصري يُدعى أحمس بن إبانا، انطلق الهكسوس الباقون من الناجين إلى مدينة تُدعى شاروهين ( بلدة في صحراء النقب في فلسطين اليوم)، وفقاً لموسوعة Ancient.
وقال المؤرخ اليهودي يوسيفوس نقلاً عن الكاهن المصري القديم مانيثو: "بعد إبرام المعاهدة مع الملك أحمس الأول كان على الهكسوس مغادرة مصر مع عائلاتهم وممتلكاتهم، بأعداد لا تقل عن 240 ألف شخص، ورحلوا عبر الصحراء إلى سوريا. لكنهم خوفاً من الآشوريين الذين سيطروا على آسيا في ذلك الوقت، استقروا في شاروهين".
وبينما يربط يوسيفوس في قراءاته بين الإسرائيليات والهكسوس، يرى العديد من العلماء المعاصرين مشاكل في خلطه -عن قصد أو من دون قصد- بين فترة طرد الهكسوس والسرد التوراتي؛ إذ وقعت أحداث هزيمة أحمس للهكسوس قبل قرونٍ طويلة من التاريخ التقليدي لخروج اليهود من مصر، وفقا للسرد التوراتي بحسب موقع Biblical Archaeology.
وتشير بعض القراءت التاريخية إلى أن طرد الهكسوس ربما لم يكن قطعياً بهذا الشكل في عهد أحمس الأول فقط؛ إذ من المحتمل أن أعداداً من الهكسوس -رغم هزيمتهم- واصلت الاستقرار في مصر في عهد المملكة الحديثة التي بدأها أحمس الأول، وبقوا على الأرجح كطبقة ضمن الأقليات المتناثرة في أنحاء الإمبراطورية المصرية.
على سبيل المثال، يوضِّح موقع Biblical Archaeology أن الملكة المصرية حتشبسوت (1489-1469 قبل الميلاد) نفت "مجموعةً من الآسيويين" من مدينة أفاريس في عهدها. ما يوضَّح أنه ربما كان للهكسوس تواجد غير رسمي في مصر إلى ذلك الوقت.