"على بُعد مسافة قريبة من ضيعاتنا في وادي العرجة أقام العسكر الجزائريون مُخيَّمهم، أرى العَلم الجزائري مُرفرِفاً بمنطقة فجيج (فكيك) المغربية"، هكذا تحدث المواطن المغربي عمر بوبكري، بعد أن تم إبلاغه بضرورة هجْر ضيعته الفلاحية من طرف مسؤولين من الجيش الجزائري.
تعود أطوار القصة إلى بداية شهر مارس/آذار الجاري، حين اجتمعت لجنة سياسية وعسكرية رفيعة المستوى، تضم موظفين تابعين لوزارة الفلاحة الجزائرية إلى جانب عناصر من الجيش برتب مختلفة يتقدمهم اثنان من الجنرالات، بمزارعين مغاربة في منطقة وادي العرجة الحدودية التابعة لمدينة فجيج (فكيك)، الواقعة ما بين جنوب شرقي المغرب وجنوب غربي الجزائر، وأخبروهم بأن عليهم إجلاء أراضيهم وتركها على اعتبار أنها أراضٍ جزائرية وليست مغربية.
يتذكر بوبكري، خلال حديثه لـ"عربي بوست"، أن "قوات جزائرية، مكوَّنة من 15 فرداً ما بين مدنيين وعسكريين، حلَّت قبل ذلك بأسبوعين بالمنطقة، قامت بدراسات وتناقشت مع السلطات المحلية المغربية، ليرحلوا دون إبلاغهم بأي شيء. بعدها بأيام حلوا من جديد وأمروا المزارعين بالإجلاء قبل تاريخ 18 مارس/آذارالجاري"، حسب قوله.
وادٍ خصب يُهجَّر مزارعوه
بحسب إحصائيات تقريبية توصل إليها "عربي بوست" من مصادر خاصة، فإن ما بين 40 و50 أسرة مغربية يقتسمون أراضي المنطقة الخصبة للعرجة، والتي تضم أزيد من 10 آلاف نخلة مثمرة.
في ضيعات المنطقة، تقف أشجار نخيل سامقة منذ قرون، تعود لأجداد أجداد السكان الذين يعيشون المأساة اليوم، واصفين إياها بالفاجعة التي لا تسعفهم الكلمات للتعبير عنها كما ينبغي.
"بعضنا يذكر غرس النخيل عام 1941 ونحن أطفال صغار رفقة آبائنا، قبل أن نقوم رفقة أطفالنا بغرس أخرى خلال سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي"، يقول بوبكري في حديثه لـ"عربي بوست".
عضوٌ بكتابة فرع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بإقليم فجيج، فضَّل عدم ذكر اسمه، بسبب "حساسية الموضوع"، أكد لـ "عربي بوست"، أن "ضرراً كبيراً واقع على المزارعين المغاربة".
وأكد الناشط السياسي الشاب أن "مدينته فقدت ما يقرب 70% من الأراضي الصالحة للزراعة منذ سبعينيات القرن الماضي، إلى اليوم، لتتكرر المأساة مجدداً بمنطقة وادي العرجة الخصبة".
يقول المتحدث، إنه "بعد زوزفانة وتمزوغت وأمغرور يأتي الدور على منطقة وادي العرجة، على الرغم من أن الفلاحين المغاربة يملكون وثائق تثبت أحقيتهم وامتلاكهم لتلك الأراضي".
"العرجة".. ومسألة الحدود
امتلاك وثائق تثبت مغربية الأرض والضيعات هو ما أكده عدد من مزارعي الضيعات المُتضرِّرين الذين تحدث إليهم "عربي بوست".
واستحضر عمر بوبكري معاهدة عام 1972 المنشورة بالجريدة الرسمية والتي تُحدِّد الحدود المغربية الجزائرية، "الجزائر تدَّعي أن الحدود بين البلدين هي وادي العرجة إلا أن الحقيقة أن الأمر يتعلق بوادٍ آخر يسمى (الواد غير المسمى)، وهو الحدود الطبيعية بين الدولتين الجارتين وليس وادي العرجة وأراضيه"، حسب قوله.
منطقة وادي العرجة ليست أول الأراضي الموجودة على الشريط الحدودي بين المغرب والجزائر والتي تثير من جديدٍ مسألة الحدود، فقبلها وقعت "المأساة" نفسها بمنطقة "زوزفانة" و"أمغرور" و"تمزُّوغت" وغيرها، على الرغم من بنود المعاهدة التي أُبرِمت بين البلدين يوم 15 يونيو/حزيران 1972، وتم تبادل وثائق التصديق عليها سنة 1989.
ونصَّ الفصل السابع من المعاهدة المذكورة، التي صدرت في الجريدة الرسمية المغربية سنة 1992، على أن "الطرفين المتعاقدين الساميين اتفقا على أن مُقتضيات هذه المعاهدة تسوّي نهائياً قضايا الحدود بين المغرب والجزائر".
ويشير أهالي المنطقة الذين تحدث إليهم "عربي بوست"، إلى أن المعاهدة تشوبها ثغرات يتم استغلالها من طرف الدولة الجزائرية، ليتمكَّنوا كل مرة من تجريد مغاربة من أراضيهم التي يحسنون استثمارها والاعتناء بها، لافتين إلى أن "الجزائريين يُهمِلون الضيعات التي ينتزعونها من المغاربة ويتركونها للبَوار".
التعويض.. هل سيكون مُرضِياً؟
فرع حزب الاتحاد الاشتراكي بمدينة فجيج طالب الدولة المغربية بأن تحسِم في هذا الملف مع الجارة الجزائر فيما يخصُّ الحدود نهائياً، وبحفظ الأراضي للأجيال القادمة؛ حتى لا تتكرر المأساة نفسها مرة أخرى.
أما الناشط السياسي عضو كتابة حزب الاتحاد الاشتراكي، فدعا وزارة الداخلية المغربية إلى التواصل مع المتضررين، متسائلاً عن موقف الدولة المغربية مما يحدث لمواطنيها، وموجهاً كلامه لوزارة الفلاحة، قائلاً: "ماذا ستقدمون لهؤلاء المزارعين، أراضي أو فسائل أو تعويضات مالية"، يقول لـ"عربي بوست".
أما عمر بوبكري، فقال بحنَقٍ بادٍ: "لم يكن يخفى على الدولة المغربية أن تلك الأراضي ستذهب يوماً ما، فلماذا تركتنا نستثمر أموالنا ومجهوداتنا طيلة عقود طويلة، لنُجرَّد منها بين ليلة وضحاها؟".
السلطات المغربية بدأت بالفعل التفاوض مع المزارعين، وأكد خبر صادر عن وزارة الداخلية لقاء محافظ مدينة فجيج من سمّوهم "مُستغِلّي الأراضي الفلاحية الموجودة بمنطقة وادي العرجة"، تم تخصيصه لتدارس التطورات المرتبطة بوضعية الأراضي الفلاحية الموجودة بالجزء الواقع شمال وادي العرجة على الحدود المغربية-الجزائرية، وذلك على "أثر اتخاذ السلطات الجزائرية قراراً مؤقتاً وظرفياً يقضي بمنع ولوج هذه المنطقة ابتداء من تاريخ 18 مارس/آذار الجاري".
وفي وقت أكد فيه المسؤولون المغاربة انكبابهم على دراسة وإعداد صيغ حلول تأخذ بعين الاعتبار الاحتمالات الواردة كافة، يطالب المزارعون المتضررون بتوثيق هذه الوعود؛ حتى تكون مضمونة وليست كلاماً فقط.
الرواية الجزائرية
لا تبدو قضية منطقة وادي العرجة الحدودية بين المغرب والجزائر قضية مثيرة للاهتمام في الجزائر سواء على المستوى الرسمي أو الإعلامي أو حتى السياسي.
فالقضية بالنسبة للجميع تتعلّق بتفصيل بسيط يرتبط بالأساس باسترداد واحة صغيرة من مزارعين مغاربة سُمح لهم لعقودٍ استغلالها بالنظر إلى حاجتهم وقرب مدينتهم فجيج منها.
وكانت السلطات الجزائرية تغضّ الطرف لسنوات طويلة، عن اجتياز المزارعين المغاربة الحدود والذهاب نحو واحة وادي العرجة من أجل طلب الرزق؛ لما يربط الشعبين من أواصر الدم والأخوة.
لماذا الآن؟
يطرح العديد من المغاربة عامة وسكان منطقة فجيج خاصة، سؤالاً مهماً وهو: لماذا الآن؟ لماذا بعد كل هذه السنوات تذكّرت الجزائر أن واحة وادي العرجة واحة جزائرية وعلى المزارعين المغاربة تركها؟
يجيب عن هذا السؤال مسؤول من دائرة بني ونيف التي تتبعها إدارياً واحة وادي العرجة، إذ يقول لـصحيفة "الوطن" الجزائرية الناطقة باللغة الفرنسية والمقربة من الدوائر الأمنية، إن "المشكل له صلة مباشرة بعمليات تهريب المخدرات عبر الطريق الرابط بين فجيج والعرجة وهو مسلك المزارعين المغاربة نفسه باتجاه ضياعهم".
ويضيف مسؤول أمني رفيع آخر لـصحيفة "الوطن" الفرانكفونية، أن "للجزائر الحقّ في تأمين حدودها مع دولة تُعرف من قِبل منظمات الأمم المتحدة بأنها المنتِج الرئيسي للقنب الهندي. كميات الحشيش التي يفرغها المغرب على أراضينا تتزايد باستمرار. ففي السنوات الأخيرة أدخلت المملكة أنواعاً هجينة وخطيرة من المخدرات لحدودنا، وبالنسبة لأي دولة يعدّ هذا العمل شبه إعلان حرب ويجب مواجهته بشتى الطرق".
هل العرجة جزائرية؟
يقول أحد القادة السابقين للناحية العسكرية الثالثة في الجزائر وهي المنطقة التي توجد بها واحة وادي العرجة، فضَّل عدم ذكر اسمه وهو يتحدث لصحيفة "الوطن"، إنه "في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات كان هناك تمرد في منطقة فجيج، وتميّزت المنطقة بمناوشاتها المتكررة مع حكومتها، بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تعيشها، وفي الوقت نفسه كانت وادي العرجة واحة مهجورة بين جبلين صغيرين يقطعها وادٍ، وكان الجانب الجنوبي الشرقي من الجبلين على الجانب الجزائري والآخر على الجانب المغربي، وبعد سنوات جاء بعض المغاربة من فجيج لجمع التمور ثم بدؤوا في غرس النخيل، ومكثوا هناك إلى يوم أن طالبتهم السلطات الجزائرية بمغادرة المنطقة قبل يوم 18 مارس/آذار الجاري، بسبب تحوُّل المكان إلى معبر لتهريب المخدرات نحو الجزائر".
وتكشف الصحيفة الجزائرية ذاتها، أن "السلطات الأمنية الجزائرية بدائرة بني ونيف أبلغت نظيرتها في فجيج بعد حجز كمية ضخمة من المخدرات، بأن تخبر مزارعيها بالرحيل عن المنطقة قبل تاريخ 18 مارس/آذار الجاري، لكنها لم تفعل، مما اضطر السلطات الجزائرية إلى القيام بنفسها بإبلاغ المزارعين المغاربة بطريقة ودية، وقد تقبلوا القرار، حسب الصحيفة، باعتبارهم يعلمون جيداً أن العرجة أرض جزائرية 100%".
وتضيف الوسيلة الإعلامية المقربة من السلطات الأمنية الجزائرية، أن "المزارعين طالبوا بمهلة من أجل إخراج معداتهم وأنعامهم وكان لهم ذلك، بحيث مُنحوا عشرة أيام تنتهي يوم 18 مارس/آذار الجاري"، حسب قوله.
تقنين زراعة القنب الهندي وأزمة الحدود
ربط المدير العام للمعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة (تابع للرئاسة الجزائرية) عبدالعزيز مجاهد، طرد المزارعين المغاربة من واحة العرجة الجزائرية بتقنين الحكومة المغربية زراعة القنب الهندي.
وقال مجاهد في تصريح لـ"عربي بوست"، إن هذا القانون يسري على المزارعين المغاربة، لكن غير مقبول أن يتمّ على أراض جزائرية، في إشارة منه إلى إمكانية قيام المزارعين المغاربة الذين يستغلون واحة العرجة بزراعة القنب الهندي، حسب قوله.
وفيما يخص المشكل الحدودي بين البلدين من طرف الإعلام المغربي، أكد مجاهد أن "الحدود في تلك المنطقة مرسَّمة منذ السبعينيات، وقد وقّع على اتفاقية ترسيم الحدود الملك السابق الراحل الحسن الثاني، وصدَّق عليها البرلمان المغربي وتملك الأمم المتحدة نسخة منها".
حرب نفسية ضد المغرب
بالنسبة لعبدالرحيم منار السليمي، أستاذ الدراسات السياسية والدولية بجامعة محمد الخامس في الرباط، فإن هذا القرار بمثابة "حرب نفسية يستعملها جنرالات الجزائر ضد المغرب"، موضحاً أن "اتفاقية 1972 غامضة ومبهمة، وتضع منطقة العرجة ضمن الأراضي الجزائرية، إلا أن وثائق معتمدة تؤكد ملكية المزارعين المغاربة لها".
وأبرز المحلل السياسي، ضمن تصريح لـ"عربي بوست"، أنه "بحوزة سكان العرجة وثائق دامغة على امتلاكهم تلك الأراضي"، مشيراً إلى أن لديهم حقوقاً كاملة على اعتبار أنهم استغلوا الأراضي مدة طويلة جداً، موضحا أن "هناك قوانين تحمي الأراضي وممتلكات الأشخاص بالحدود".
ويرى رئيس المركز الأطلسي للدراسات الاستراتيجية والتحليل الأمني، أن هذه الخطوة بمثابة رد فعل يائس على بسط المغرب سيطرته الكاملة على معبر "الكركرات" الحدودي، وبعد نجاح الدبلوماسية المغربية ومكتسباتها بالمناطق الجنوبية.
ويعتبر الأستاذ الجامعي أن من اللازم تعويض المزارعين المغاربة، مبيناً أن قرار الجنرالات الجزائريين، وفي حال كان بناءً على معاهدة 1972، فهذا يعني بطريقة مباشرةٍ اعترافهم بالصحراء المغربية، وهو ما سيُمكّن المغرب من المطالبة باسترجاع كيلومترات عديدة، أما في حال جاء القرار اعتماداً على ترسيم الحدود، فبإمكان المغرب أن يعيد طرح قضية الصحراء من جديد وتقديم الوثائق والإثباتات التي بحوزته.
"حتى في حال لم ترغب الدولة المغربية في فتح الملف مباشرة، فستُمكّن السكان ممن يملكون الوثائق، من التوجه صوب المحاكم الفرنسية والأوروبية، كما من حق المزارِعين رفع قضايا ضد الجنرالات بعد استغلال الأراضي لعقود طويلة، بما يُمكِّنهم من ضمان حقوقهم"، يقول السليمي.