تنزِع البرقع الذي يُخفي ملامح وجهها، وتُزيل الخمار المنسدل على كتفيها، قبل أن تركب سيارتها رباعية الدفع من نوع (Audi Q7)، وتنطلق إلى حال سبيلها.
هدوء المرأة الأربعينية حين كانت تغير ملابسها البالية السوداء بمعطف راق وتستعد لمغادرة زقاق ضيق يلفه الظلام بمنطقة "أورير" شمالي أغادير (تبعد عن الرباط 546 كيلومتراً)، رافقه غضب مَن كان يراقب تحركاتها، موقِناً أنها متسولة احترفت ادِّعاء الإصابة بالأمراض والتظاهر بالمعاناة مع العوز وفقد المُعيل.
ولأن لكل حكاية نهاية، تأكدت الشكوك حول "المتسولة" صاحبة السيارة الفارِهة، وتم اعتقالها من قِبل رجال الأمن، ولعلّها الآن تعُض على أصلابعها ندماً وهي بين جدران باردة بالسجن المحلي، مواجِهة تهمة "امتهان التسول دون أن تكون في حاجة إلى ذلك".
ويُعاقب القانون المغربي المتسولين بالسجن، وتتراوح العقوبة بالفصل 326 من القانون الجنائي، "من شهر إلى ستة أشهر سجناً نافذاً، كل من كانت لديه وسائل العيش أو كان بوُسعِه الحصول على عمل، لكنه تعوّد على ممارسة التسول بطريقة اعتيادية".
فئة أخرى من المتسولين المغاربة يواجهون عقوبات سجنية تتراوح ما بين ثلاثة أشهر إلى سنة نافذة، بموجب الفصل 327، إذا ارتبطت بـ"التهديد أو التظاهر بمرض أو عاهة"، كما تكون العقوبة مشددة في أقصاها إذا تعوّد المتسول على اصطحاب طفل صغير أو أكثر من غير فروعه، أو الدخول إلى مسكن أو أحد ملحقاته دون إذن مالكه أو شاغله.
متسوِّلة محتالة
التسول ليس التهمة الوحيدة التي تواجه المتسولة الغنية، إذ أكد عدد من أصحاب المحلات التجارية تعرُّضهم لمحاولات السرقة والنصب، بل منهم من تمكَّنت فعلاً من سرقة بضاعته بطرق مُلتوية، مستغلة ازدحام المحل بالزبائن، أو مستعينة بمظهر شخصيتها الثانية، والتي جعلت من الملابس الأنيقة والحلي الذهبية إكسسوارات مؤثثة له.
لم يُشكك مصطفى، مشرف على مخزن لبيع مواد الصباغة والدهان، في الطريقة التي كانت تتحدث بها السيدة الأربعينية أمامه، "كانت ترتدي ملابس فاخرة، وتضج مِعْصَماها وعنقها بالحلي الذهبية، فيما كان شعرها مُنسدلاً على كتفيها، والحكايات الرائجة عن المتسولة النصابة كانت تصفها بكونها ترتدي خماراً أسودَ يخفي هويتها"، يقول مصطفى لـ"عربي بوست".
تقدمت نحوه طالبة بضاعة تزيد قيمتها عن 5000 درهم (500 دولار)، ولأن المبلغ ليس في حوزتها كاملاً، اقترحت أن تذهب نحو الصراف الآلي على أن تعود بعد قليل، رفض مصطفى أن تصحب البضاعة في سيارتها إلى حين تسديد ثمنها، ما أدْخَلها في نوبة غضب وسبٍّ قبل أن تغادر المحل وهي تتوعَّده، "بعد أيام عادت تتوسل صدقة وهي ترتدي ملابس رثة متسخة وتخفي ملامحها بالبرقع، إلا أن لون عينيها الأزرق كشفها، وعلمتُ أنها المتسولة النصابة التي راجت حكاياتها بالمنطقة"، يقول مسير المخزن.
تسول الأثرياء في المغرب
حكاية "المتسولة الغنية" أعادت إلى الأذهان مجموعةً من الحكايات المشابهة، فقبل شهر واحد فقط، وقعت متسولة في شِراك عصابة استدرَجتها بطريقة ماكرة وجرَّدتها من مبلغ تم تقديره بـ40 ألف درهم (حوالي 4500 دولار) من قلب بيتها.
الزمان: فبراير/شباط 2021، والمكان: حي شعبي بمدينة مكناس (يبعد عن الرباط بحوالي 152 كيلومتراً)، في يوم بارد ومُمطر حلَّت نسوة ببيت المتسولة وزوجها طريح الفراش، بدعوى مساعدتها في تنظيف البيت، وأفهموها أنهن يمثلن جمعية لمساعدة المحتاجين.
اطمأنَّت المتسولة لكلام السيدات، خاصة أنَّهن وَعَدنها باقتناء منزل جديد يكون في ملكيتها الخاصة، على أن تمنحهم مبلغاً من المال، وهو ما كان فعلاً، سلمت المتسولة مبلغ 4500 دولار للسيدات قبل أن يختفين في لمح البصر.
النَّصب على المتسولات لا يقتصر على الأحياء منهن، بل والأموات كذلك، ففي ديسمبر/كانون الأول 2020، وبعد ساعات فقط من وفاة إحدى المتسولات بمدينة القصر الكبير (شمالي المغرب)، وبعد التوجه لدفن جثمانها، توجَّهت بعض جاراتها إلى المنزل الذي كانت تعيش فيه وحيدة دون أهل أو أبناء، حيث وجدن مبلغ 110 آلاف درهم (ما يناهز 12,300 ألف دولار أمريكي)، إلا أن اختلافهن على طريقة تقسيم المبلغ وارتفاع أصواتهن شجاراً وسباباً كشف أمرهن.
في أكتوبر/تشرين الأول 2017، هذه المرة كانت القصة مختلفة، إذ تم اعتقال متسولة بمدينة مارتيل (شمالي البلاد) وبحوزتها مبلغ 180 ألف درهم (حوالي 20 ألف دولار)، كانت تلُفُّه حول خصرها في قطعة قماش.
المتسولة البالغة من العمر 66 سنة، ولأنها لا تأمن على ترك أموالها في أي مكان، كانت تلُفُّها حول خصرها وتتسكع بشوارع وأزقة المدينة طالبة المال والمساعدة من المارّة، قبل أن يتم إلقاء القبض عليها واكتشاف أمرها، عقب شكوى باعتراضها المواطنين في الشارع واتهامها بالتسول والنصب.
أموال وفيرة
الحكايات الكثيرة التي تتناقل بوتيرة أكبر وأسرع باتَت تمنع المغاربة من التَّعاطف مع متسولي الشوارع وأمام المساجد والمحلات التجارية، بل منهم من لا يتورَّع عن دق بوابات المنازل، بل ورن جرس الباب، طالباً المال أو الملابس أو بعض الأغطية والأواني.
أغراض تتم إعادة بيعها ولو بأبخس الأثمان، وهو ما أكده صاحب بقالة لـ"عربي بوست"، قال إنه يعمد يومياً إلى تسلم علب حليب وشاي وخبز من قِبل متسولين تحصلوا عليها من طرف مواطنين رفضوا تسليمهم المال مفضِّلين تقديم مساعدات عينية، "إلا أن جميع الطرق تؤدي إلى روما"، يقول البقال.
ويعمد المتسولون إلى قصد البقالين والتجار والصيدليات من أجل تسليمهم قطعاً نقدية من فئة درهم ودرهمين وخمسة وعشرة (الصَّرف)، وتعويضها بأوراق نقدية، تقول ابتسام.ر صيدلانية بمدينة سلا المحاذية للعاصمة الرباط، "في نهاية اليوم يُكدِّس بعض المتسولين كومة من القطع النقدية أمامها، طالبين تعويضها بأوراق نقدية"، حين سَألَت "عربي بوست" عن قيمتها أكدت الصيدلانية أنها تتراوح ما بين 200 و500 درهم ( حوالي 22 دولاراً و55 دولاراً).
مبالغ يسيل لها اللُّعاب وتدفع الكثيرين إلى اتخاذ التسول "مهنة" للكسب السَّهل والوفير، جعلت المغرب يتقدم الدول العربية في عدد المتسولين، حيث بلغ عددهم 195 ألفاً، وهو رقم قياسي لبلد لا يتجاوز عدد سكانه 40 مليون نسمة، مقارنة مع دولة مصر التي احتلت المرتبة الثانية بـ41 ألف متسول، علماً أن تعداد سكانها يُناهز الـ100 مليون، فهل ينجح المسؤولون المغاربة، يوماً ما، في أن يجعلوا شوارعهم خالية ممن يعترضون طريق المارّة؟
الحاجة إلى الرعاية النفسية
المحققون المغاربة توصَّلوا إلى أن المتسولة، وهي في عقدها الرابع، دَأبَت منذ مدة على امتهان التسول بعيداً عن محيط مقر سكنها، حتى لا تثير الشُّبهات حولها، وقال تقرير أمني إنها "تعمد إلى التنقل إلى مركز "أورير" بواسطة سيارتها رباعية الدفع، تركنها بعيداً عن الأنظار وتُغيِّر ملابسها الفاخرة بأخرى تثير بها عطف وشفقة المحسنين".
بعد الانتهاء من "دوام العمل" تعود المتسولة أدراجها، حيث تقوم بتغيير ملابسها بعيداً عن أعين المُتلصِّصين، ثم تلتحق بسيارتها وتعود إلى شقتها الفاخرة بأحد أحياء أغادير الراقية.
عالم الاجتماع المغربي محسن بنزاكور قال إن هذا النوع المُتفرد من التسول الذي يمثل استثماراً في حد ذاته يُخلِّف لذة نفسية لدى ممارِسِه عند استعطاف الناس بسبب الأموال، أو أن هذا المتسول لا يحس حضوره النفسي إلا من خلال استدرار عطفهم، والنصب والاحتيال على الآخرين".
ويرى المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أنه "على الرغم من تجريم القانون المغربي للتسول فإن سجن المتسولين، خاصة من هم على شاكلة "متسولة أغادير الغنية" ليس حلاً، ومن اللازم دراسة الحالة وتشخيصها بطريقة علمية وتحليل ما تعاني منه تلك السيدة التي هي بحاجة لمتابعة نفسية".
وأبرز المتحدث أن "المتسولين يستطيبون حصولهم على أموال كثيرة من مجرد الجلوس طيلة النهار في مكان معين، ما يجعلهم يتخلون عن الرغبة في بذل أي مجهود"، منبِّها إلى مسؤولية المواطنين المغاربة، إذ أكد أن "كل قطعة نقدية يتم وضعها في كفِّ متسول تُكرِّس مظاهر الابتزاز والاستغناء، وتضر اقتصاد البلاد، وتساعد على الكسب غير العقلاني".