دفع تشديد السلطات المغربية لإجراءات المراقبة في السواحل القريبة من إسبانيا شمالاً، وإغلاق معبر سبتة، المئات من الشباب المغربي إلى سلوك طريق آخر أكثر خطورة.
ومنذ بداية انتشار جائحة كورونا أصبح الوصول إلى جزر الكناري الإسبانية انطلاقاً من السواحل الصحراوية وجهةً مفضلة لعدد من المغاربة، الذين لم تُثنِهم الأخبار المفجعة بشأن غرق عدد ممن سبقوهم عن ركوب أمواج الأطلسي أملاً في تحقيق حلم الوصول إلى الفردوس الأوروبي.
رحلة الموت
"نجونا من موت محقق، ولا أنصح من يتوفر على الحد الأدنى من العيش الكريم في المغرب بسلوك هذا الطريق"، بهذه العبارات بدأت لبنى حكايتها مع الهجرة غير النظامية من المغرب نحو جزر الكناري التابعة لإسبانيا.
لبنى واحدة من النساء اللواتي كُتب لهن النجاة من الموت غرقاً والوصول إلى الأرخبيل الإسباني بحثاً عن ظروف أفضل، إذ البحث عن وسيلة لمغادرة المغرب منذ سنوات، بعدما توفي زوجها وأصبحت مضطرة لإعالة أسرة مكونة من قاصرتين وقاصر.
تقول لبنى في حديث مع "عربي بوست": "أصبحت أفكر في الهجرة ليل نهار، خاصة أن ابني القاصر تمكن من الوصول إلى إسبانيا خلال عملية للهجرة السرية من سواحل طنجة، وشوقي لابني، وقصر ذات اليد في مدينة الفقيه بنصالح بالمغرب دفعتني للبحث عن جميع الوسائل لمغاردة المغرب، إذ حاولت الهجرة عن طريق تركيا، وفشلت، لكنني لم أستسلم، وظل حلم لقاء ابني يراودني، خاصة أنني لم أحظَ بلقائه منذ ثلاث سنوات".
لا تعرف لبنى متزعم شبكة الهجرة السرية، الذي خطط لنقلها إلى إسبانيا، فكل ما في الأمر أن أحد جيرانها بمدينة الفقيه بنصالح أخبرها أن هناك إمكانية للهجرة نحو الجارة الشمالية انطلاقاً من شاطئ مدينة الداخلة. فوافقت على الفور غير مبالية بما ينتظرني من أهوال ومتاعب، حسبما أكدت لبنى لـ"عربي بوست".
تضيف المتحدثة "اتفقت مع جاري على منحه مبلغ 40 ألف درهم (4000 دولار) مقابل تمكيني من الوصول إلى جزر الكناري رفقة ابنتي القاصر، انطلاقاً من مدينة الداخلة، هذا المبلغ سيسلمه بدوره إلى وسيط آخر أجهل هويته".
والملاحظ أن المبالغ التي تتقاضاها شبكات الهجرة السرية في مدن الأقاليم الصحراوية مقابل الشخص الواحد تعادل نصف المبلغ الذي تتقاضاه الشبكات التي تنشط في مدن الشمال المغربي، ما يفسر الإقبال الكبير على هذا الطريق. لكن هناك عامل آخر يفسر انخفاض تكلفة الهجرة السرية عبر أمواج المحيط الأطلسي، وهي الخطورة التي يكتسيها هذا المحور بسبب طول مدة الرحلة.
تقول لبنى لـ"عربي بوست" إن "رحلة القارب، الذي كان على متنه أكثر من 20 شخصاً من بينهم امرأة حامل وقاصر دامت 3 أيام. مضيفة أنه لولا تدخل خفر قوات خفر السواحل الإسبانية من أجل إنقاذهم لكانوا اليوم في عداد الموتى".
وتصف لبنى المشاهد المؤثرة التي عاشتها خلال رحلتها فتقول "كانت بداية الرحلة عادية، لكن خلال اليوم الثالث من الرحلة اعترضتنا العواصف، وكاد القارب يتعرض للغرق أكثر من مرة، حينها بدأ الجميع ينطق الشهادة، ويردد الصلاة على النبي، إلى أن قامت قوات خفر السواحل بإنقاذنا، حيث قدموا لنا الإسعافات الأولية".
تجارب متكررة
المشاهد التي عاشتها لبنى، عاشتها كذلك سعيدة (30 عاماً)، وهي سيدة مطلقة، أجبرتها قسوة الظروف الاجتماعية على ركوب أمواج المحيط الأطلسي.
تحكي سعيدة لـ"عربي بوست" عن ظروف رحلتها قائلة: "مكثنا 10 أيام في مدينة الداخلة ننتظر موعد الانطلاق، ويوم الإثنين 25 يناير/كانون الثاني على الساعة التاسعة مساء، قام عدد من الصحراويين بنقلنا على متن سيارات رباعية الدفع إلى الشاطئ، حيث بقينا ننتظر حوالي ساعة إلى أن تجمعنا، وانطلقت رحلتنا نحو الأرخبيل الإسباني".
وتضيف "بعد إنقاذنا من موت محقق، قدّم لنا الإسبان الإسعافات الأولية، وتم نقلنا لأحد الفنادق الذي قضينا فيه ستة أيام، عوملنا خلالها بشكل إيجابي، باستثناء الأكل الذي لم أكن معتادة عليه، كما أنني لم آكل اللحم خلال تلك الفترة، مخافة أن يكون لحم الخنزير".
وإذا كان حظ لبنى وسعيدة قد قادهما إلى مغادرة مخيمات المهاجرين، بعد تدخل بعض معارفهما المقيمين بإسبانيا، الذين وقعوا التزاماً للسطات يتعهدون فيه باستقبالهما في انتظار إيجاد عمل لهما، فإن آخرين كان حظهم أسوأ، إذ تم ترحيلهم باتفاق بين المغرب وإسبانيا لتضيع منهم المبالغ المالية التي منحوها لشبكات الهجرة السرية، في انتظار محاولات أخرى، كما انتشر شريط فيديو يوثق تعرض قاصرين مغاربة للضرب من طرف عناصر أمنية إسبانية في أحد المراكز المخصصة للمهاجرين.
يؤكد محمد سالم البيهي، برلماني مغربي سابق وفاعل جمعوي في مدينة العيون الجنوبية، أن "الآلاف من المهاجرين يصلون للضفة الإسبانية، انطلاقاً من مدن طرفاية والداخلة والعيون، منهم مواطنون مغاربة وآخرون ينحدرون من دول إفريقيا جنوب الصحراء. إذ تُخصص السلطات الإسبانية لهم مراكز إيواء ومعسكرات طوارئ، ويتم عزلهم بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد".
ويربط سالم البيهي بين تدفق المهاجرين نحو الجزر الإسبانية وتدهور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية منذ بداية انتشار فيروس كورونا المستجد، مشيراً إلى أن "العديد منهم توفوا للأسف الشديد غرقاً، ولفظتهم مياه الأطلسي في جزر الكناري، خاصة في جزيرة لانثروتي".
وقال المتحدث: "شخصياً كنت موجوداً بهذه الجزيرة حينما لفظت مياه الأطلسي جثث 8 مهاجرين مغاربة، وقد قررت السلطات الإسبانية حرق جثث مهاجرين تبين إصابتهم بفيروس كورونا المستجد، إلا أن تدخلنا رفقة نائب اتحاد مساجد جزر الكناري حال دون ذلك، وتم دفنهم في مقبرة الجزيرة المخصصة للمسلمين، وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية".
وبحسب المنظمة الدولية للهجرة، فقد خلف هذا الطريق ما لا يقل عن 414 ضحية من جنسيات مختلفة بين ميت ومختف خلال هذا العام، حيث كان الغرق مصيرهم وهم يحاولون الوصول إلى الأرخبيل الإسباني، إما من الأراضي المغربية، أو موريتانيا، خلال العام الماضي فقط.
تقول لبنى بحسرة "إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه في المغرب فإنه لا أحد سيظل هناك، بل سيركب المواطنون قوارب الموت من أجل تغيير أوضاعهم، لكنني لا أنصح أحداً بذلك، لأن الوضع خطير جداً". أما سعيدة فتقول "إن الأوضاع في المغرب أصبحت لا تطاق بالنسبة للذين ليس لهم عمل دائم يحفظ كرامتهم".
وتضيف سعيدة "حينما كاد القارب يغرق بنا أكثر من مرة، تذكرت اتصالات والدتي وتوسلاتها إلي بعدم الإقدام على المغامرة، لكن لم يكن هناك بد من ركوب قوارب الموت"، داعية المسؤولين في المغرب إلى تقديم حلول جذرية للشباب حتى لا يصبح لقمة سائغة لشبكات الهجرة.
يوسف الكيراوي، شاب لم يتجاوز 24 سنة من عمره، أكد بدوره لـ"عربي بوست" أنه قضى رفقة 37 شخصاً آخر خمسة أيام على متن زورق.
ويحكي يوسف تجربته في محاولة الهجرة، كون أن "الفقر هو الذي دفعني للهجرة، لقد عملت في مدينتي قلعة السراغنة بائعاً متجولاً، لكن السلطات كانت تصادر بضاعتي، مما كان يتسبب لي في خسارة كبيرة، لقد فقدت أي أمل في العيش بكرامة في المغرب، وحاولت الهجرة لإيطاليا عبر تونس ففشلت، قبل أن أقرر التوجه لإسبانيا انطلاقاً من مدينة الداخلة".
ويضيف المتحدث: "نحن الآن مقيمون في أحد الفنادق بجزر الكناري التي خصصتها إسبانيا للمهاجرين بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد، ويمكنني أن أؤكد لك أننا نحظى بمعاملة جيدة، وما نخشاه هو أن تقوم السلطات الإسبانية بترحيلنا، أنا لا أرغب في العودة، لقد دفعت ما جمعته من نقود لوسيط في الهجرة السرية، ولم أعد أملك شيئاً، كل ما أريده أن أغادر جزر الكناري إلى منطقة أخرى بحثاً عن عمل يحفظ كرامتي".
كنت الوحيدة بين الرجال
خلال بحث "عربي بوست" عن قصص الناجين من الموت، تواصل مع شابة لم تتجاوز الثالثة والعشرين من عمرها بعد.
سارة، حاصلة على الإجازة في القانون الخاص ودبلوم الدراسات الجامعية العامة في البيولوجيا من كلية العلوم بمراكش، اضطرت بدورها لركوب أمواج المحيط بحثاً عن حياة أفضل رفقة 30 شاباً.
تقول سارة لـ"عربي بوست": "كنت الوحيدة بين الشباب، وكان تعاملهم معي جيداً، لكنني لا أنسى تلك اللحظة التي بدأ يتسرب فيها الماء إلى القارب، وبدأ الشباب يقومون بإفراغه، حينها ظننت أننا سنهلك لا محالة، لكن الله أنجانا".وعن طموحاتها المستقبلية، تقول سارة "سأتعلم اللغة الإسبانية أولاً، ثم أتقدم بطلب من أجل إتمام دراستي في كلية الطب، هذا أقصى ما أطمح إليه بعدما نجوت من الموت".