خطف ميناء سوسة، في إحدى المحافظات الساحلية التي تبعد عن العاصمة التونسية نحو 140 كم، الأضواء حيث أصبح يعرف بوجهة الصفقات الفاسدة، من وصول شحنات القمح الفاسد إلى أطنان النفايات القادمة بطريقة غير شرعية من إيطاليا.
"عربي بوست" حاول فك رموز لغز ميناء سوسة الذي شُيد عام 1886 ليتخصص في مناولة البضائع المختلفة، ويمتد ميناء سوسة على طول 820 متراً وبعرض 65، وأصبح ذكر اسمه مرادفاً للفساد والصفقات المثيرة للجدل في تونس.
الفساد في ميناء سوسة
مثّل عام 2020 منعرجاً حاسماً في تاريخ ميناء سوسة، إذ كَسر الكشف عن شحنات الأغذية الفاسدة الموردة إلى البلاد وصفقات الفساد العام الماضي، هدوء المدينة ومينائها، الذي يُعد واحداً من سبعة موانئ تونسية تجارية.
ويكتسي ميناء سوسة أهمية كبيرة على المستوى الاقتصادي في تونس، إذ بلغ حجم البضائع المتبادلة فيه 2.4 مليون في عام 2015 وهو ما يمثل 11% من الحركة التجارية على المستوى الوطني.
وبدأت فضائح ميناء سوسة تتوالى بعد كشف نوال المحمودي، المتفقدة السابقة بمركز المراقبة الصحية بالميناء، عن شحنات من القمح المُسرطن وصلت عبر سفينة أوكرانية عام 2019، ثم توالت الفضائح بكشف صفقات أخرى مدوية بميناء سوسة، أبرزها صفقة النفايات الإيطالية قبل الإعلان عن حجز كميات كبيرة من المواد الغذائية الفاسدة (درع/ كاكاو…) في شحنات مختلفة.
وقد أطاحت الصفقات الفاسدة بميناء سوسة برؤوس كبيرة في الدولة، إذ تم إيقاف 12 شخصاً على صلة بملف استيراد النفايات الإيطالية وحدها، من بينهم وزير البيئة المقال، مصطفى العروي ومدير ديوانه، ومسؤولون آخرون في وكالة التصرف في النفايات، ومسؤولون بوكالة حماية المحيط وإطارات في الديوانة التونسية، وقنصل تونس بنابولي وفق تأكيد المتحدث باسم المحكمة الابتدائية سوسة1 جابر الغنيمي.
حقائق صادمة
تطورت قصة ميناء سوسة التجاري في تونس لتصل إلى يد القضاء، بعد تحقيق تلفزيوني بثته القناة التونسية حول موضوع وصول شحنات من النفايات الإيطالية إلى تونس، الأمر الذي أعاد نبش قضايا الفساد التي شهدها الميناء.
نوال المحمودي، المتفقدة السابقة بمركز المراقبة الصحية الحدود بميناء سوسة، والشخص الذي كان له الفضل في الكشف عن عدد من هذه الصفقات في الميناء، في تصريح خصت به "عربي بوست" أن ضعف الدور الرقابي في الميناء هو السبب الرئيسي في دخول شحنات أغذية فاسدة للبلاد دون حسيب أو رقيب.
وأضافت المتحدثة أن "كّم وحجم الفساد الموجود في ميناء سوسة مهول ولا يمكن تخيله"، مؤكدة أنها "انطلقت في بحثها من اختفاء الأرشيف في الميناء، قبل أن تُصدم من هول الكارثة حين عثرت بالصدفة على جزء من هذا الأرشيف في دورات مياه الميناء".
وفيما تحفّظت عن مدّنا بأي من الوثائق الخاصة بصفقة القمح الفاسد وصفقات أخرى بسبب تعهد القضاء بها، أكدت المحمودي أن ما اكتشفته خلال عملها في ميناء سوسة يستوجب وقفة حازمة من الدولة لفك رموز هذا الميناء وقطع أخطبوط الفساد فيه، مشيرة إلى أنها "صُدمت عندما اكتشفت خلال بحثها أن ميناء سوسة كان ولسنوات بوابة لدخول عدد من الأمراض المعدية إلى البلاد".
وتشير محدثتنا إلى الوثائق التي قدمتها لهيئة مكافحة الفساد وللقضاء تفيد بوفاة شخص أجنبي دخل تونس عبر ميناء سوسة سنة 2015، بعد أسبوعين من دخوله مستشفى فرحات حشاد في نفس المدينة جراء إصابته بمرض القردة المعدي والخطير، مؤكدة أن الميناء لم يعلم الجهات الصحية والأمنية بهذه المعلومات الخطيرة.
ومن جملة ما اكتشفته المحمودي في ميناء سوسة وفقاً لوثائق أرشيفية لم يتم الإعلان عنها هو فقدان أشخاص في المياه الإقليمية، وحوادث وفيات داخل الميناء لم يتم إعلام الوجهات المختصة بها، مشيرة إلى أنها قدمت معلومات للقضاء تؤكد تستّر إدارة الميناء والسلطات عن الإعلان عن عدد من الوفيات لعدد من الأجانب المصابين بأمراض خطيرة بعد أن دخلوا التراب التونسي عبر هذا الميناء.
وتابعت المحمودي في حديثها مع "عربي بوست" أن "شحنات البضائع والأغذية الفاسدة التي تدخل تونس عبر ميناء سوسة ليست وليدة اليوم، وأن حجم الفساد يؤكد أن هذه الشحنات كانت تدخل البلاد بنفس الطريقة ودون رقابة منذ سنوات".
قفص الاتهام
كمية الفساد المعلن عنه داخل ميناء سوسة استوجبت تدخل البرلمان الذي جند لجنة مكافحة الفساد للتتبع الموضوع، خصوصاً أن الأمر أطاح برؤوس كبيرة، ومازالت عمليات التحقيق مستمرة من طرف القضاء التونسي.
من جهته، وجّه بدر الدين القمودي، رئيس لجنة مكافحة الفساد في البرلمان التونسي، أصابع الاتهام إلى الهيئات الرقابية في ميناء سوسة، ومنها التابعة لوزارات الصحة والبيئة وكذلك للديوانة (الجمارك) التونسية.
وقال القمودي في تصريح لـ"عربي بوست" إن "حجم الإيقافات في قضية النفايات الايطالية يُؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن مسؤولين في وزارتي الصحة والبيئة، وكذلك في الديوانة التونسية متورطون في الفساد والتستر عليه في ميناء سوسة".
وحول حجم الصفقات والشحنات الفاسدة في الميناء التي تم الكشف عنها في فترة وجيزةٍ، أوضح القمودي أن جهاز الجمارك يحاول نوعاً ما التنفيس عن نفسه بسبب الضغوط والأضواء التي سُلطت على الميناء، على الرغم من أن التعامل مع شحنات وبضائع فاسدة يعد أمراً روتينياً في الموانئ.
وعن أخطبوط الفساد الذي يبدو أنه يمسك بزمام الأمور في ميناء سوسة، اعتقد القمودي أن شبكات الفساد والتهريب التي كانت تنشط بقوة في هذا الميناء في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، مازالت تسيطر على الميناء حتى وإن تغير المسؤولون.
وأضاف المتحدث أنه "تاريخياً ميناء سوسة كان منفذاً لعصابة بن علي في إدارة عمليات التهريب وشبكات الفساد، هذه الشبكات التي لم تسقط بسقوط بن علي"، مؤكداً أن "لجنة مكافحة الفساد في البرلمان ستفتح قريباً الملفات المتعلقة بموانئ تونسية أخرى، أبرزها ميناء رادس، يقيناً منها أن أخطبوط الفساد لا يسيطر فقط على ميناء سوسة".
الجمارك تنفي
من جهته، نفى المتحدث الرسمي باسم الجمارك التونسية هيثم زناد لـ"عربي بوست" كل الاتهامات الموجهة لهذا السلك الأمني في علاقته بقضايا الفساد في ميناء سوسة، مؤكداً أنه "لولا وقوف أعوان وإطارات الجمارك التونسية في وجه الفساد لما تم إحباط دخول هذه الشحنات والصفقات إلى البلاد".
وأوضح زناد أن "إصرار الديوانة على عدم دخول شحنات النفايات الإيطالية لتونس كان سبباً رئيسياً في تفجر هذه القضية"، مشيراً إلى أن "حجم المعاملات والنشاط السنوي للديوانة في الميناء مقارنة مع الموانئ الأخرى يؤكد العمل الرقابي الكبير الذي يقوم به أعوان الديوانة في الميناء".
وأضاف المتحدث الرسمي باسم الجمارك التونسية أن "التعاطي الإعلامي مع قضايا نوعية شهدها ميناء سوسة، واهتمام المجتمع المدني بهذه الملفات كان له دور كبير في تركيز الضوء على الميناء"، مشيراً إلى أن "أطرافاً متورطةً في قضايا فساد مثل ملف النفايات تستهدف الجمارك وتُريد إقحامها عنوة في هذه الملفات والنيل من سمعتها والدور الوطني لها".
وأكد زناد أن حجم الإيقافات في قضية النفايات الإيطالية يبرهن الخلل الكبير الموجود في وكالة التصرف في النفايات ووزارة البيئة في علاقةٍ بالدور الرقابي المنوط بعهدتها.
وفي سياق متصل، أكد زناد أن الديوانة التونسية قررت دعم جهودها في ميناء سوسة عبر تركيز وحدة الاستهداف المسبق للعمليات التجارية ووحدات الشحن بهدف تحديد المخاطر والشكوك قبل وصول البواخر والشحنات إلى الميناء، مشيراً إلى أن "هذه الطريقة ستمكن من معرفة نوع البضائع وتاريخ شحنها، وتحركات البواخر قبل وصولها للميناء وقبل تحويل البواخر ذات المخاطر العالية إلى رواق أحمر مخصص للتفتيش اليدوي".