يتداول بعض النشطاء السياسيين في مصر مقولة شعبية تقول إن الشعب المصري مثل الجمل، يخزن لفترة طويلة تفوق ما يتخيله كثيرون، لكنه لا بد وأن يأتي عليه يوم يجترّ فيه كل ما خزّنه لسنوات، وهم يصفون بذلك التغيرات الملحوظة التي شهدها عام 2020، في تعامل قطاعات غير قليلة من أبناء الشعب مع النظام السياسي القائم برئاسة عبدالفتاح السيسي.
يمكن القول إن أبرز التغيّرات اللافتة تتمثل في التحول الظاهر من التأييد غير المشروط الذي منحه الشعب للسيسي عقب نجاح الجيش في إزاحة الرئيس الراحل د. محمد مرسي، في الـ30 من يونيو/حزيران عام 2013، بعد خروج مظاهرات شعبية مناهضة لحكم الإخوان، إلى التحفظ في تأييد السيسي بعدما أقدم عقب نجاحه في انتخابات الرئاسة صيف عام 2014 على اتخاذ عدد من الإجراءات الاقتصادية، أسهمت في الأساس في رفع معاناة أبناء الطبقة المتوسطة.
لكن الأمر بلغ في العام الأخير حدَّ الجهر بمعارضة السيسي وسياساته، بل والمطالبة برحيله على خلفية اتهامات بالفشل في السياسة الخارجية، وأبرزها ملف سد النهضة، بجانب إغراق البلاد في الديون لتمويل مشروعات لا يستفيد منها الغالبية العظمى من المواطنين، وأخيراً إقدام الحكومة بإيعاز من الرئيس نفسه على فرض رسوم هائلة على المواطنين، فيما بات يُعرف باسم قانون التصالح في مخالفات البناء، وهو ما اعتبره البعض محاولة من الحكومة لتعويض عجزها عن تدبير الموارد المطلوبة لتمويل مشروعات السيسي.
في إحدى سيارات النقل الخاصة (ميكروباص)، التي توقفت في كمين شرطي على مدخل منطقة إمبابة الشعبية القريبة من جزيرة الوراق، التي شهدت أحداث عنف قبل 4 أعوام بسبب رغبة الحكومة في تهجير سكانها تمهيداً لتحويل الجزيرة إلى مشروع سياحي فاخر، تطوع راكب للحديث مع أمناء الشرطة في الكمين.
لكن اللافت أن الراكب الذي عرّف عن نفسه لاحقاً لـ"عربي بوست"، ويدعى سيد عطية (محامٍ)، لم يحاول كسب عطف أمناء الشرطة كما جرت العادة في مواقف كهذه في مختلف شوارع مصر، لكنه باغتهم بعبارات قاسية عن أن الناس لم يعد معها أموال يمكن أن تسرقها الحكومة منهم في كمائن وهمية، والمفاجأة الأكبر أن أمناء الشرطة لم يغضبوا من كلامه أو يحاولوا إنزاله من الميكروباص وتحويله لقسم الشرطة كما اعتقد بقية الركاب، وإنما اكتفوا بالابتسام وهم يقسمون أنهم مثل بقية الشعب يعانون أيضاً، ما فتح الباب أمام بقية الركاب لإطلاق كلمات غاضبة كانوا يخزنونها في صدورهم خوفاً من العقاب.
ما يفعله السيسي في الشعب وأحدثه في قانون التصالح بات ضرباً من الجنون لا يُحتمل
"عربي بوست" سألت سيد عطية عن سبب جرأته التي يمكن أن تكلفه حريته، فردّ ببساطة "يا روح ما بعدك روح، هما هيعملوا فينا إيه تاني"، وحكى عن أنه مطلوب منه سداد 30 ألف جنيه تحت حساب التصالح في مخالفة بناء ارتكبها صاحب العمارة التي يقطن فيها في منطقة إمبابة.
وأضاف قائلاً أن ما يفعله السيسي بات ضرباً من الجنون لا يُحتمل، فهو مثلاً تملّك الشقة التي يقطن فيها حالياً قبل حوالي 10 سنوات، ولم يكن إجمالي سعرها يتجاوز 60 ألف جنيه، والآن بعد كل هذه السنوات وبعدما تزوج وأنجب ولدين تذكرت الدولة أن العقار الذي يقطنه عليه مخالفات مبانٍ، وتطالبه بسداد نصف ثمن الشقة تحت الحساب، ما يعني أن القيمة النهائية قد تكون أكثر، وربما تفوق ما دفعه لشراء الشقة من الأصل.
وتساءل في غضب: كيف يحاسبوننا على سعر الأرض الحالي ويتجاهلون أنه لم يكن يتجاوز ربع هذه القيمة وقت الشراء قبل سنوات؟!
أمام هذا الوضع يعيش سيد أسوأ أيامه كما قال، حيث لا يملك قيمة دفعة التصالح المطلوبة، خصوصاً أن دخله في السنوات الأخيرة لم يعد يكفي احتياجات أسرته، وفي نفس الوقت يخشى أن يتم هدم شقته وإجباره على حياة التشرد مع أسرته.
لذلك بات يفتعل المشاجرات مع رجال الشرطة في الشارع أو في المحاكم التي يتردد عليها، ولا يجبن عن سبّ السيسي والحكومة، مبرراً ذلك بأنه ينفّس عن غضبه حتى لا "يقع من طوله"، وإذا تسبب ذلك في سجنه فلا بأس، لأنهم بذلك يكونون قد أعفوه من عبء حل المشكلة التي وضعوه فيها أمام زوجته وولديه!
لواء سابق في أمن الدولة رفض ذكر اسمه قال لـ"عربي بوست" إن مشكلة النظام السياسي الحالي في قلة خبرته وضيق أفقه، ورفضه الغريب للاستعانة بذوي الخبرة، معتقداً قدرته على التعامل مع الشعب، وربما كان السيسي لا يزال منبهراً بما حدث في 26 يوليو/تموز من عام 2013، حين خرج الملايين من أبناء الشعب في الشوارع لتفويضه في مواجهة الإرهاب كما طلب منهم.
لكن الرئيس -والكلام لا يزال للواء- لا يدرك أن مشاعر الملايين تجاهه تبدلت بالفعل، بسبب إجراءاته الاقتصادية الخانقة التي دفعت بملايين المصريين من أبناء الطبقة المتوسطة إلى خط الفقر.
فطبقاً للبنك الدولي فإن حوالي 60% من سكان مصر إما فقراء أو أكثر احتياجاً. في وقت يبدو السيسي منشغلاً ببناء مشروعات عملاقة ليس لها أي تأثير إيجابي سريع على حياة الناس، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة العلمين وغيرها، وكلها تصب في صالح رجال الأعمال والأثرياء.
فيديوهات محمد علي وما كشفته من بذخ الرئيس كانت نقطة التحول في علاقة السيسي مع الشعب
في تحليل لظاهرة مجاهرة المصريين بمعارضة السيسي، ومطالبته بالرحيل يقول أ.ن، وهو خبير استراتيجي في أحد المراكز البحثية المعروفة في مصر، إن نقطة التحول في علاقة السيسي مع الشعب كانت في سبتمبر/أيلول من العام الماضي 2019، وتحديداً بعد ذيوع فيديوهات المقاول المصري الهارب في إسبانيا محمد علي، التي تحدث فيها عن القصور الرئاسية والمبالغ الخرافية التي يتكلفها بناء هذه القصور، لمجرد إرضاء الرئيس وأسرته، وهي المرة الأولى منذ تولي السيسي مهامه الرئاسية التي يتطرق فيها أحد إلى هذا الإسراف ومظاهر البذخ، في وقت يعاني فيه أغلب أبناء الطبقة المتوسطة من شظف العيش، بسبب رفع الدعم عن أغلب السلع والخدمات، ورفع أسعارها بشكل مبالغ فيه بدعوى تماشيها مع الأسعار العالمية.
وشهد نفس الشهر من عام 2019 خروج مظاهرات في عدة محافظات وحتى في ميدان عبدالمنعم رياض القريب من ميدان التحرير، تطالب برحيل السيسي، صحيح أن تلك المظاهرات لم تكن بالكثافة ولا الزخم الكافيين لنجاحها مثلما حدث في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 مثلاً، لكنها بقيت نقطة فارقة في علاقة الشعب مع نظامه السياسي، كونها المرة الأولى التي يخرج فيها أشخاص عاديون غير مسيسين للمطالبة برحيل الرئيس وإعلان رفضهم له ولسياساته.
عام 2020 بدأ محفوفاً بمظاهر التوتر والترقب من الشعب والحكومة
وهكذا جاء العام 2020 محفوفاً بمظاهر التوتر والترقب من الطرفين، الشعب يترقب أي إجراءات جديدة للحكومة تزيد من معاناته المعيشية، والنظام السياسي الحاكم يترقب إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا الحراك الشعبي، خصوصاً في ظل ما تردد وقتها عن وقوف مسؤولين كبار ساخطين بسبب إقالتهم من جهات سيادية وراء ذلك الحراك، بل وعن تحريك المقاول محمد علي، ومده بالمعلومات التي أذاعها في فيديوهاته التي اكتسبت شعبية واسعة في فترة بسيطة.
لكن يبدو أن النظام السياسي بلغ درجة من الغرور أو الغباء -بحسب ما يقول ن. ب- وهو محام ينشط في الدفاع عن قضايا النشطاء السياسيين، دفعته للاستمرار في إجراءاته غير المدروسة التي لا تحقق شيئاً سوى تأليب قطاعات جديدة من الشعب ضد السيسي، وأبرز هذه الإجراءات بالطبع كانت قانون التصالح في مخالفات البناء، الذي أقره البرلمان المصري في الثامن من أبريل/نيسان عام 2019، ودخل حيز التنفيذ في صيف العام 2020، ليستيقظ ملايين من المصريين على واقع جديد أكثر ألماً مما سبق، وإن عاشه منذ وصول السيسي للحكم، حيث بات عليهم دفع عشرات الآلاف من الجنيهات للتصالح في مخالفات قديمة ارتكبها المقاولون بمعاونة مسؤولي الأحياء والمحليات الفاسدين، أو تعرض بيوتهم للهدم وانتقالهم مع أسرهم إلى تصنيف المشردين الذين يعيشون في الشوارع.
ويصف المحامي الحقوقي قانون التصالح وطريقة الحكومة في تنفيذه بـ"الغباء المحكم"، فهو من جهة كشف عن أن الحكومة والدولة كلها تريد أن تتحول إلى قوة غاشمة ليس لها هدف سوى تحصيل الأموال أو الجباية من الشعب، لتمويل المشروعات التي يحلم بها السيسي، دون مراعاة لأي اعتبارات اجتماعية أو اقتصادية من عواقب تنفيذ القانون.
من جهة أخرى تسببت طريقة التنفيذ في زيادة الاحتقان الشعبي، خصوصاً إقدام الحكومة على تخويل مسؤولي الأحياء والمحليات متابعة التنفيذ والنص على حصولهم على نسبة من عوائد مخالفات التصالح، وهو الأمر الذي كشف عن زيف ما ظل السيسي يعلنه طوال سنوات عن حرب يقودها ضد الفساد، بينما على أرض الواقع يعتمد على الفاسدين أنفسهم، الذين سمحوا وتغاضوا عن المباني المخالفة مقابل ملايين الجنيهات لتنفيذ قانون التصالح، بل ومكافأتهم على ذلك.
السيسي أول رئيس مصري يتجرأ على الإعلان عن الاستعانة بالجيش في مواجهة الشعب
ناجي م. (ناشط سياسي)، قال إن أحداً لا يستطيع إنكار أن مظاهر الرفض للسيسي وسياساته زادت بشكل ملحوظ في العام المنقضي 2020، ليس فقط للاعتراض على الأحوال الاقتصادية المتردية والكبت السياسي واعتقال المعارضين والشباب، وقد بلغت تلك المظاهر درجة غير مسبوقة منذ ظهور السيسي نفسه على مسرح الأحداث في مصر، وصلت إلى حد مطالبته بالرحيل مثلما نادت بذلك المظاهرات المتعددة التي خرجت في عدة محافظات مصرية، في سبتمبر/أيلول الماضي.
وفي تفسيره لزيادة جرأة الشعب على الجهر بمعارضة السيسي قال ناجي إن الرئيس ونظامه السياسي يبدو كأنه يعادي نفسه، فالقرارات الحكومية المثيرة للجدل التي تم اتخاذها على مدار 2020 وأبرزها قانون التصالح، لم يجر التمهيد لها عبر استفتاءات شعبية أو استطلاعات معتمدة من المراكز المتخصصة، وتم تطبيقها رغم الغضبة الشعبية التي أثارتها، بل إن احتقان الناس ارتفع بشدة عقب تهديد السيسي باللجوء للجيش لتنفيذ قرارات الهدم، وهي المرة الأولى التي يتجرأ فيها رئيس مصري على الإعلان عن الاستعانة بالجيش في مواجهة الشعب، وهو ما يعني أنه لا يعي القيم والثوابت الوطنية للجيش المصري، رغم أنه قضى فيه أكثر من 50 عاماً.
خورشيد م، وهو موظف بالمعاش يعيش في إحدى محافظات الدلتا يعترف أنه لم يعد من مؤيدي السيسي، بل ولا يمانع في النزول للتظاهر للمطالبة برحيله إذا ما حدث حراك شعبي ضد الرئيس، وذلك بعدما تسبب الرجل في إفقار الشعب حتى دفع كثيراً من أبناء المتوسطة إلى حافة الفقر.
ويضيف بأسى أنه بات مألوفاً في العامين الماضيين أن يجد سيدات يبدو عليهن أنهن سيدات بيوت محترمات، يدورن على المقاهي في مراكز كفرالشيخ ومدنها، ليعرضن على مرتادي تلك المقاهي منتجات منزلية صنعنها بأنفسهن، ويسعين لبيعها لتأمين احتياجات أولادهن الأساسية، مثل الطعام والملابس والتعليم، بعد أن رفعت الحكومة الدعم عن السلع والخدمات الرئيسية، ورفع أسعار المواصلات وإلغاء مجانية التعليم الأساسي بعد عقود طويلة من المجانية، ورفع ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات.
كذلك على مستواه الشخصي بات يعيش في حزن مستمر، لأن أولاده الثلاثة الذين تعب في تربيتهم وعاش سنوات في الغربة ليوفر لهم حياة كريمة، يعانون بشدة في حياتهم بعد تخرجهم، فمنهم من لا يجد عملاً مناسباً رغم تخرجه من 5 سنوات، وحينما غامر وقرر أن يفتتح ورشة لصيانة السيارات لشغل وقته وجد أن عليه دفع رشاوى شبه يومية لرجال البلدية والشرطة والدفاع المدني وغيرهم، حتى إنه أغلق الورشة بعد عدة شهور بعدما وجد أن ما يدفعه يفوق إيرادات الورشة، أما ابنه الآخر فيعاني هو الآخر بسبب عمله في مجال المقاولات، حيث بات عليه أن يعمل من خلال وزارة الإنتاج الحربي والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، اللذين يحصلان على نسبة ضخمة من الأرباح ويتركان له الفتات، والأدهى أنه لا يحصل على ذلك الفتات إلا بعد شهور من اللف و"البهدلة"، وغالباً ما تتم مقايضته للتنازل عن نسبة من أمواله كتبرع إجباري لصندوق تحيا مصر، أو تأخير مستحقاته لشهور أخرى، حتى إنه بات يفكر جدياً في ترك العمل والبحث عن فرصة للهجرة.
فتّش عن جو بايدن
عبدالحليم. ص. وهو صحفي متابع للأحداث السياسية المحلية والدولية يطرح رؤية مختلفة لأسباب مجاهرة عدد غير قليل من المصريين بمعارضة السيسي والمطالبة برحيله، ألا وهي نجاح المرشح الديمقراطي جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة وسقوط دونالد ترامب الذي كان يوصف طوال السنوات الأربع الماضية بأنه الحليف الأقوى للسيسي، والذي سبق أن وصف الرئيس المصري في وقت سابق بأنه "ديكتاتوره المفضل"
ويضيف عبدالحليم أن نجاح بايدن ساعد على تخلي كثيرين من النشطاء السياسيين والفئات غير المسيسة عن حذرهم الذي لازمهم طوال السنوات الماضية، خصوصاً بعد الهجوم الأمريكي والأوروبي غير المسبوق على السيسي بسبب احتجاز عدد من مسؤولي المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ما دفع الحكومة المصرية للإفراج عنهم، وقبل ذلك الإعلان عن الإفراج عن عشرات من النشطاء الشباب، كـ"عربون" حسن نوايا من السيسي للرئيس الديمقراطي المنتخب، وأخيراً موقف البرلمان الأوروبي وبيانه في ديسمبر/كانون الأول الحالي، الذي استخدم ألفاظاً حادة لأول مرة منذ سنوات للتنديد بالقمع الذي يمارسه السيسي ونظامه السياسي ضد الشعب.
وتوقع الصحفي المصري أن يكتسب الحراك المعارض في مصر زخماً أكبر في العام الجديد، خاصة إذا لم ينجح السيسي في كسب ود بايدن بشكل سريع في الشهور الأولى من العام، وهو أمر غير متوقع في ضوء المواقف المعلنة للرئيس الديمقراطي خلال حملته الانتخابية، التي انتقد فيها اعتقال وتعذيب عدد من النشطاء" في مصر، خلال احتفائه بإطلاق سراح المواطن الأمريكي محمد عماشة، والذي كان محتجزاً في مصر لأكثر من عام، بسبب حمله "لافتة احتجاج"، مؤكداً أنه لن يوجد مزيد من الشيكات المجانية أو الفارغة للرئيس المصري الذي لم يسمه، وإنما اكتفى بوصفه بأنه "ديكتاتور ترامب المفضل".