كشفت مجلة POLITICO الأمريكية، أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عيَّن مستشارين خارجيين؛ للتحقيق في عمل المكتب المعروف باسم "الخلية الدبلوماسية"، في ظل اتهامات بهيمنة بيئة عمل عدوانية ومختلة وظيفياً، وفق ما ذكره التقرير الذي نُشر الأربعاء 28 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
إذ عيَّن قصر الإليزيه مستشارين خارجيين للتحقيق في عمل المكتب، حيث وُضِع اثنان من الفريق الذي يتألّف من أقل من 10 أشخاص في إجازةٍ مرَضية طويلة بواسطة الأطباء، العام الماضي.
المشكلة في شخصين فقط! تحدّث المسؤولون والدبلوماسيون الذين قابلتهم مجلة POLITICO الأمريكية، عن حالات إنهاك وعقلية حصار داخل الخلية. كما زعموا أيضاً أنّ الخلية قوّضت السياسة الخارجية لماكرون أحياناً، نتيجة ضعف التنسيق مع- أو الموقف العدائي تجاه- القطاعات الأخرى ب الإدارة الفرنسية، والحكومات الأجنبية، والمجتمع الدبلوماسي في باريس.
تتمحور الادعاءات حول مستشار ماكرون الدبلوماسي إيمانويل بون، ونائبته أليس روفو. وتتراوح بين إساءات لفظية، ووابل من رسائل البريد الإلكتروني العدوانية، وطعنات في الظهر، وإقصاء للآخرين داخل مكتب الرئيس.
فيما يُنكر السفير السابق إلى لبنان بون، والموظفة الحكومية القديمة أليس، تلك الاتهامات إجمالاً، وفقاً لمسؤولي الإليزيه. كما رفضوا التعليق رسمياً على هذا المقال، المبني على محادثات مع عشرات المسؤولين الفرنسيين الذين لهم درايةٌ مباشرة بالوضع، إلى جانب دبلوماسيين أجانب يخدمون في باريس.
بينما أمر قصر الإليزيه بإجراء تحقيقٍ خارجي بعد وضع المستشار الثاني في إجازةٍ مرَضية إلى أجلٍ غير مسمى، نهاية الصيف.
يُعدُّ التحقيق- الذي وصفه القصر بـ"التدقيق" في عمل الخلية- خطوةً غير معتادة إطلاقاً في الحكومة الفرنسية، مما يُشير إلى أنّ المشكلات تتجاوز نطاق القيل والقال والتنافسات الشائعة بين أروقة السلطة حول العالم.
لكن أحد مسؤولي الإليزيه أشار إلى أن الثنائي يشعر بأنه محميٌّ نظرياً؛ لعلاقته المقربة مع الرئيس. إذ قال المسؤول: "يشعر بون وأليس بأنّ لديهما رخصةً للتنمر والمضايقة مع شعورٍ بالإفلات التام من العقاب".
استياءٌ من الوقاحة: اشتكى سفراءٌ أجانب ودبلوماسيون آخرون في باريس من معاملة بون وأليس "الوقحة" و"المتعالية"، وصعوبة حثهما على الرد على المكالمات والرسائل النصية وترتيب الاجتماعات. (لكن بون يُنكر أنه رفض على الإطلاق مقابلة أيّ سفير من دول مجموعة العشرين، وفقاً لمسؤولٍ في القصر).
إذ قال سفير إحدى دول مجموعة العشرين: "لقد فاض الكيل بالسفراء من قصر الإليزيه ووقاحته، ولن يُقدّموا أيّ خدمات لماكرون في عواصمهم". وقد دعم سفراءٌ آخرون وجهة النظر تلك.
كما تحدَّث السفير عن واقعةٍ شهدت سفر مسؤولٍ بارز من وزارة خارجيته على متن رحلةٍ طويلة إلى باريس؛ لزيارة الإليزيه ولقاء بون في اجتماعٍ مقررٍ قبل شهرين. لكن مكتب بون أبلغ مكتب السفير قبلها بأقل من 24 ساعة، أن الاجتماع يجب أن يُؤجّل.
في رسالةٍ نصية مقتضبة عقب ذلك، اطلعت عليها مجلة POLITICO، قال بون للسفير إنه يخدم الرئيس الفرنسي الذي طلب وجوده في وقت الاجتماع المُقرّر. وقد تفاقم الإحباط من الخلية داخل الشبكة الدبلوماسية الفرنسية أيضاً.
أحاديث عن الفوضى: انتشرت منذ شهور، الأحاديث عن الفوضى بالخلية الدبلوماسية للإليزيه في أوساط الإدارة الرئاسية والحكومة، مع تساؤل كثيرين عن الكيفية التي سُمِحَ بها لهذا النوع من بيئة العمل، بالتطوّر. وتصاعدت الأحاديث حول المشاكل في الخلية بعد وضع المستشارة كلير ثوديت في إجازةٍ مرَضية، العام الجاري.
كانت كلير تخدم في منصب مستشار الشؤون العالمية، المنوط بها الإشراف على قضايا المناخ والصحة. وتركت الخلية رسمياً في الرابع من مارس/آذار، بالتزامن مع بروز جائحة فيروس كورونا على الساحة الدولية بوصفها تهديداً كبيراً. وظل المنصب شاغراً مع انتشار الجائحة حول العالم، حتى تم العثور على بديلٍ لها في أغسطس/آب. وتخدم كلير الآن في منصب مديرة المعهد الفرنسي بإيطاليا.
بعد وضع مستشارٍ آخر، هو تيموراز جورجيستاني المسؤول عن شؤون أمريكا وآسيا، في إجازةٍ مرَضية بواسطة طبيبه؛ صدرت الأوامر بفتح تحقيقٍ خارجي أواخر شهر أغسطس/آب.
وصف المسؤولون الذين يعرفون كلير وجورجيستاني المستشارَين بأنهما تعرضا لصدمةٍ نفسية، نتيجة عملهما في الخلية الدبلوماسية. لكنّهما رفضا التعليق رسمياً في هذا المقال.
إذ يميل أسلوب الإدارة الفرنسي إلى أن يكون أقسى من نظيره في دولٍ أخرى مثل الولايات المتحدة. إذ ينشأ عديد من الفرنسيين وسط نظامٍ من الحب القاسي، مع التركيز أكثر على الجزء "القاسي"ـ حيث يُعتقد أن النقد اللاذع ضروريٌّ من أجل تحفيز الطلاب والموظفين على التميّز.
ماكرون "دارويني": كما يُوصف ماكرون نفسه عادةً من المسؤولين الذين عملوا على مقربةٍ منه، بأنه "دارويني" النزعة، أي يتبنّى نهج البقاء للأقوى بين أفراد فريقه. وليست حالات الإنهاك مصطلحاً جديداً في مناصب السياسة الخارجية الفرنسية، وحتى داخل وزارة الخارجية.
لكن المسؤولين العارفين بكلير وجورجيستاني قالوا إنهما لمعا في المناصب السابقة تحت الضغط الشديد.
بينما تحدَّث مسؤولون حاليون وسابقون في الإليزيه، شهدوا حالات انهيار بالخلية، عن وقائع فقدت خلالها أليس أعصابها وصرخت في زملائها واستخفَّت بهم وقلّلت من شأنهم، لأنهم لم يُنفّذوا المهام كما تصوَّرتها. لكن أليس أنكرت ذلك، وفقاً لمسؤولين في القصر.
كما وصف المسؤولون أيضاً بيئةً تشهد صراخ بون وأليس في مرؤوسيهما لدرجةٍ تدفعهم إلى البكاء، وأوامر للفريق بإعادة العمل مراراً وتكراراً، مع تغيير التعليمات والفشل في توفير المعلومات اللازمة.
علاوةً على اندلاع الشقاق بين بون وأليس، وفقاً لعددٍ من المسؤولين. إذ قال ثلاثةٌ منهم، إن أليس أخبرت زملاءها بأن بون يجب استبداله. لكن الرئاسة رفضت التعليق.
تداعيات "الموت الدماغي": بخلاف شؤون الموظفين هذه، اشتكى بعض المسؤولين الفرنسيين من أن الخلية فشلت في إعداد الدبلوماسيين للتعامل مع التداعيات الدولية الهائلة لوصف ماكرون حلف الناتو، العام الماضي، بأنه يعاني من "الموت الدماغي".
فقبل أسبوعين أو ثلاثة من نشر تعليقات ماكرون في صحيفة The Economist البريطانية، كانت الخلية تمتلك نص المقابلة، وفقاً لمسؤولين مطلعين على المعلومات.
طوال تلك الفترة، لم يعطِ بون أو أليس أي تعليمات لمرؤوسيهما حول كيفية التعامل مع التداعيات، وفقاً للمسؤولين.
ربما كان كتمان الأخبار عن الدبلوماسيين خياراً مُتعمَّداً من ماكرون، الذي حذَّر السفراء الفرنسيين علناً من محاولة تقويض سياساته التخريبية، وتحدَّث عن "الدولة العميقة" خلال خطابه في وزارة الخارجية عام 2019.
لكن الافتقار إلى التنبيهات قبلها بوقتٍ كافٍ أثار غضب المسؤولين والدبلوماسيين الفرنسيين، الذين تُرِكوا في منتصف الأزمة يتدافعون من أجل الحصول على نقاطٍ للحوار وهم غير مجهَّزين بالمرَّة للدفاع عن ماكرون أمام الحلفاء الحائرين.
دفاعٌ عدواني: يُعَدُّ بون وأليس غريبَين نوعاً ما عن مجموعة المرشحين المعتادين لمناصبهم. لكن كليهما خدم في مناصب دنيا داخل الخلية الدبلوماسية للرئيس السابق فرانسوا هولاند، وقابلا ماكرون آنذاك حين كان نائب الأمين العام لقصر الإليزيه.
منذ فتح التحقيق في الخلية الدبلوماسية، دافع مسؤولون مقربون من الوضع بالرئاسة باستماتةٍ متزايدة عن تلك الادعاءات. وأشاروا إلى الدور القيادي الذي أدَّته فرنسا على المسرح العالمي في ظل حكم ماكرون، مع رفض الشكاوى باعتبارها تصفية حسابات داخلية.
رغم أن فرنسا ورئيسها قدّما أعلى مستويات الأداء على الساحة الدولية منذ عقود، فإن المسؤولين الفرنسيين يقولون إن الدبلوماسيين يرفضون تولّي المناصب المرغوبة بشدة عادةً- والتي صارت شاغرة- داخل الخلية الدبلوماسية.
بينما قال أحد مسؤولي الرئاسة: "أجد الأمر غير عادل حين أقرأ أن هذا الفريق يُعاني مشكلات في التوظيف. فالفريق يُؤدي عمله على أكمل وجه. وليس من الجيد لمن يعملون به أن يسمعوا أن لديهم مشكلات في التوظيف".
مع ذلك ما يزال هناك منصبان شاغران: منصب المستشار الأوروبي، ومنصب مستشار الشؤون الاستراتيجية. ومن المتوقع أن يتقدم أليكساندر آدم، المستشار الفني للشؤون الأوروبية، لشغل منصب المستشار الأوروبي الذي كان يشغله فعلياً بالإنابة.
في حين من المتوقع أن تتولّى أليس نفسها منصب مستشار الشؤون الاستراتيجية وفقاً للمسؤولين، في خطوةٍ ستمنحها نفوذاً رسمياً أكبر داخل الخلية. ولا يُخطِّط بون أو أليس للاستقالة، وفقاً للمسؤولين.