حينما شعر اللبنانيون عموماً، وأبناء طرابلس خصوصاً، أنهم محاصرون من الجهات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والعملية اقتنعوا بضرورة الهروب من البلد بأي طريقة ممكنة، وهذه الطريقة كانت غير شرعية عبر شراء قارب من مهرِّب جال في أحياء المدينة، ولكن كانت نهايتهم مأساوية.
التواصل مع المهرّب
يبدو أن للمهرّب أحمد صفوان خلايا متحرّكة في أحياء الشمال، ففي كلّ منطقة لديه أفراد يقنعون شبّان المدينة بضرورة الهجرة من البلاد، بسبب الأوضاع الراهنة، ووضعهم المحرج. أحد الهاربين في القارب يُدعى نظير المحمّد، الذي هرب مع أسرته، ومع أخيه محمّد سفيان المحمّد وأسرته أيضاً، وبسبب الوضع النفسي السيئ لهذه العائلة، أوكلوا إلى ابن عمّهما زيّاد البيرة ليروي ما حصل بالتفصيل،
فيقول وضع محمّد ونظير صعب جداً، فكلاهما لا يعمل إلّا إذا توفّر عمل يومي حتّى تعرّفا على أحمد صفوان وجماعته.
أقنعها بضرورة السفر عبر البحر، لأن ما ينتظرهم أجمل بكثير مما يعيشونه في لبنان، في قبرص، حيث الرحلة المزعومة، سيتمكّنان من العيش بكرامة، ويجمعان المال، وبالتالي ملء بطون عيالهما، أقنع صفوان نظير وشقيقه فباعا فرش المنزل وسلّما المنزل لصاحبه.
أخذ صفوان بحسب زيّاد حوالي 20 مليون ليرة لبنانية، وقال إن هذا المبلغ بالنسبة لنظير ومحمّد يعادل 20 مليون دولار، ولكن كي يضمن نظير حقّه طلب من صاحب القارب أحمد صفوان أن يسجّل القارب على اسمه ضمانة له، وحصل ذلك، وانطلق برفقة حوالي 50 شخصاً من ميناء طرابلس مستعدّين لرحلة رأوا فيها بصيص أمل لحياة أفضل.
الرحلة في البحر
قال صفوان للمهاجرين إن عليهم أوّلا التوجّه إلى جزيرة الرينغ، التي تبعد ساعتين فقط عن ميناء طرابلس، حيث من المفترض أن يجدوا قارباً كبيراً بانتظارهم، وعليه ما يحتاجون من طعام ومأوى إلى حين وصولهم إلى قبرص، أي هذا القارب عليه أن يوصلهم إلى النقطة التي يريدونها.
طبعاً، كل هذا كان كذباً، وجد المهاجرون أنفسهم في وسط البحار، ولا يملكون سوى قارورتين من المازوت، ويتّبعون سياسة التقنين كي تساندهم حتى آخر الرحلة، مرّت الأيام وهم ما زالوا وسط البحر، ولا يملكون طعاماً ومعهم أطفال رضّع.
بسبب عدم وجود الطّعام قامت الأمّهات بإطعام الأطفال الماء والملح، ولكن الموت كان أقرب إليهم. توفّى طفل بعدما تورّم جسمه من قلّة الطعام وحرارة الشمس القوية، ليلحقه بعد يوم واحد ابن أخيه محمّد، وكلاهما في الأشهر الأولى من العمر، بعد يومين، اضطروا إلى رميهم في البحر.
بعد انقطاع الأمل، قام شاب يدعى محمّد خلدون المحمّد و3 شبّان آخرين بالقفز من القارب، رابطين بعضهم البعض بحبلٍ، واضعين قارورتين فارغتين على بطونهم وظهورهم تفادياً للغرق، سبحوا في المياه الواسعة بحثاً عن أيّ مساعدة من الممكن أن تنقذهم، ولكن دون جدوى، ذهب الشبّان دون عودة وما زالوا مفقودين حتى الساعة، بعد يومين من اختفائهم.
توفّي رجل من الجالية البنغلادشية نتيجة الإرهاق والتعب، وحينها قرّر صهر زياد البيرة، شادي محمود رمضان، برفقة إبراهيم لاشين وشاب آخر إعادة خطوة أصحابهم في القارب والقفز مجدداً بالطريقة ذاتها وللأسباب عينها، ولكن أيضاً، السلّة كانت خالية من أي تطوّرات أو مساعدات إنقاذية.
العودة إلى لبنان
بعد يومين من السباحة، وجد أحد الشبّان عناصر اليونيفيل فوق رأسه، كان هذا هو الخيط الأول لعملية الإنقاذ التي تأخرّت أكثر من خمسة أيام تقريباً، تمكّنت قوّات اليونيفيل من إنقاذه، وأرشدهم إلى مكان القارب، وأنقذ بمساعدة الجيش اللبناني من كانوا بالقارب، وعادوا إلى منازلهم سالمين جسدياً، منهكين نفسياً وخاسرين أطفالهم. بعد الاستدلال من الشّاب على ما حدث، بحثت قوّات اليونيفيل عن إبراهيم لاشين الملقّب بـ"بوب"، وكان آخر من وجد من المفقودين حيّاً.
قبل عودة القارب إلى ميناء طرابلس ومعرفة أهل المدينة بمّا حدث، كان أحمد صفوان ما زال يقنع فلان وعلان بالهرب ويجعلهم يحلمون بالأموال والحياة الكريمة، لكن بعدما شاع الخبر في المدينة هرب صفوان مع خليته وما زالت الأجهزة الأمنية تبحث عنه.
بحسب زياد، حالة العائلة يرثى لها، حيث نقل محمّد سفيان المحمّد الذي توفّي طفله إلى المستشفى بسبب عارض صحيّ، لذا لم يستطع التحدّث مع "عربي بوست"، خاصة أنه خسر كل ما يملك.
شادي محمود رمضان ما زال مفقوداً حتى الساعة، ولا أثر له في المياه، والاتصال مقطوع منذ لحظة قفزه في البحر، والعائلة تناشد قوّات اليونيفيل للبحث عنه.
الهروب بجنسية مختلفة
اليأس عند أهالي الشمال وصل إلى حدّ بيع أثاث المنزل والسيارات من أجل عيش حياة كريمة. همام شاب لبناني من عكّار، شمال لبنان، عمره 30 سنة، وكان يعمل حدّاداً منذ عام 2008. بعد أن تدهورت أحواله قرّر مع عدد من أصحابه أن يهاجر بطريقة غير شرعية لأنها "أسهل وأقلّ كلفة"، خصوصاً أن أسعار التذاكر أصبحت خيالية.
قال همام: "أردت الرحيل لدرجة أنّني سافرت ببطاقة لاجئ سوري وأنا لبناني، وأعلم أنّني لو أردت الدخول إلى اليونان فلن يسمحوا لي بذلك بالهوية اللبنانية". حصّنوا أنفسهم جيّداً واشتروا قارباً صغيراً، وكانوا يعلمون تماماً المكان الذي يريدون الوصول إليه.
عند نقطة الوصول إلى قبرص كالمحطّة الأولى، رفضت القوّات القبرصية إدخالهم إلى أراضيها، ويدّعي همام أنهم حاولوا إغراقهم بموجات وهمية فترة 5 أيام، بعدما تواصلت القوّات القبرصية مع السلطات اللبنانية من أجل إعادتهم إلى بلدهم الأم.
رغم كلّ ما حصل، قال همام وبإصرار، إنه يعيد هذه الخطوة، وبطاقة لاجئ سوري، ولن يتعب من المحاولة ما دام البقاء في لبنان أشبه بسجن والجلادون يحيطون بكلّ مكان فلا سبيل إلا الهرب.
سامر عوض أيضاً كان من الشبّان المتّجهين نحو اليونان، ولكن توقّفت رحلته في قبرص، وهو الآن هناك.
تعطّل محرّك القارب على الحدود القبرصية، وناشدوهم المساعدة، ولكن لا جدوى. نام سامر 3 أيام في البحر إلى أن جاء الفرج بإصلاح المحرّك، واستكملوا الطريق حتى الوصول إلى قبرص التركية، حيث أصبح مكان إقامة سامر الثاني.
الهروب منذ عام 2015
عام 2015، حاول عماد الطرطوسي الهروب من لبنان بطريقة غير شرعية للمرّة الأولى، ولكنه في المرّة الأولى سافر دون أسرته، في محاولة لاستكشاف الوضع، غير أنّ محاولته باءت بالفشل، بقيت الفكرة تراوده حتى هذا العام، ولكن هذه المرّة قرّر أن يصطحب أسرته معه، لأن الوضع لم يعد يسمح له ولا لأسرته بالعيش.
باع عماد كلّ ما يملك هو وأصدقاؤه وركبوا على متن قارب متّجهين نحو إيطاليا، استخدموا رخصة صيد سمكة التونا، التي تسمح لهم بالخروج من الأراضي اللبنانية.
المحطّة الأولى كانت قبرص أيضاً، وهنا بدأ العذاب، أرادوا الاستراحة قليلاً قبل متابعة طريقهم نحو إيطاليا، لكن السلطات القبرصية لم تسمح لهم بذلك، حاصرتهم بموجات وهمية، كما كان حال همام وسامر، حتى أجبروا على العودة إلى ميناء طرابلس.
ولكن عماد حاول مجدّداً أن يهاجر بطريقة غير شرعية، ما دامت الأوضاع على حالها والهجرة مكلفة جدّاً. الانتظار للانتهاء من أزمة كورونا ومن الأزمة التي يعيشها اللبنانيون هو بالنسبة لعماد "تضييع للوقت".
ما دام وصل الحال باللبنانيين كباراً وصغاراً وشبّاناً بالهجرة عبر البحر، فهذا يعني أن الوضع أصبح خطيراً جداً. هذا المشهد شبيه بما كان يحصل في سوريا في خضم الحرب، ويبدو أن في لبنان الحرب الاقتصادية والمعيشية تساوي الحرب بالطائرات والدبابات والرصاص في سوريا. بالنسبة لهم تعدّدت الأسباب والموت واحد. الشعب اللبناني يموت كلّ يوم من أجل رغيف خبز، ومن أجل الحصول على ليرة منهارة أصلاً، فضلاً عن انفجار المرفأ في 4أغسطس/آب، الذي زاد الطّين بلّة. أحلام اللبنانيين أصبحت معلّقة بهجرة غير شرعية، بعمل يومي لتأمين رغيف خبز، وبمعجزة قد تنقذهم من الكابوس المستمر. في خضم كلّ هذا ما زال فريق سياسي يعارض تشكيل الحكومة من أجل حقيبة وزارة المال، واللبنانيون رهائن هذه الحقيبة.