ما أكثر المعادن متانةً على الإطلاق؟ غالباً ستفكر في الفولاذ، لكن لا، هناك ما هو أكثر متانة من الفولاذ بـ200 مرة، والميزة أيضاً أنه ليس ثقيلاً مثله، بل أخف كثيراً، فحتى إنه أخف من الورق بـ 1000 مرة، كما أنه شفاف بنسبة 98%، إنه الغرافين، ذلك الابتكار الذي قد يسمح لنا أيضاً بالحصول على بطاريات تشحن أسرع 5 مرات من البطاريات العادية، ويكون عمر بطارية أطول بثلاث مرات.
ابتكار الغرافين: شريط لاصق وقلم رصاص مكنا باحثين من الفوز بـ"نوبل"
عندما تكون عالماً تملك مختبراً فإنك ستفكر في قلمك الرصاص بشكل مختلف. رصاص القلم اسمه الجرافيت، ويتكون من صفائح فائقة الرقة من الكربون النقي مكدسة فوق بعضها البعض، وبما أنك عالم لديك وقت للتأمل، فكرت؛ هل يمكنني أن أفصل صفيحة واحدة من الكربون؟ وكيف ستبدو؟!
هذا ما فعله الباحثان في جامعة مانشستر أندريه جيم وكونستانتين نوفوسيلوف، بالعام 2004، حيث أرادا معرفة ما إذا كان بإمكانهما عزل صفيحة واحدة من الجرافيت، وهي طبقة رفيعة للغاية من الكربون بسماكة ذرة واحدة فقط.
لذا فقد أتوا بلفافة من الشريط اللاصق -نعم، الشريط الشفاف الذي تحتفظ به في درج الأدوات الصغيرة- وبدأوا تجربة قد تغير الكثير في عالم الصناعات والتكنولوجيا.
إليكم كيف وصف جيم أسلوبه، كما أوردته شبكة BBC البريطانية:
"ضع شريطاً لاصقاً على الجرافيت أو الميكا وانزع الطبقة العلوية. ستجد هناك رقائق من الجرافيت التصقت بالشريط اللاصق. ثم تطوي الشريط على نفسه إلى نصفين وتلصقه برقائق بالسطح العلوي الملتصق بالشريط، وتعيد تقسيمها مرة أخرى. ثم تكرر هذه الخطوة 10 أو 20 مرة. وفي كل مرة تنقسم الرقائق إلى رقائق أرق وأرق. في النهاية سيصبح لديك رقائق رفيعة جداً متصلة بالشريط اللاصق، والذي تقوم بإذابتها ويتحول كل شيء إلى محلول".
لا تضحك، فقد نجحت طريقة الشريط اللاصق هذه! ومن خلال عزل طبقة أحادية مكونة من ذرة كربون واحدة، يُنسب الفضل إلى جيم ونوفوسيلوف في اكتشاف مادة جديدة تماماً تسمى "الغرافين" والتي يُعتقد الآن أنها أقوى وأخف مادة وأكثرها توصيلاً للكهرباء على الأرض.
ليس هذا فحسب، فقد تقاسم جيم ونوفوسيلوف جائزة نوبل في الفيزياء في عام 2010، لاكتشاف الغرافين، ومن وقتها بدأ الباحثون في جميع أنحاء العالم في المطالبة بصخب بسبل لاستخدام هذه "المادة الفائقة" الرائعة لبناء بطاريات أكثر قوة وأطول عمراً، وشرائح دقيقة أسرع، ودوائر مرنة، وأجهزة استشعار حيوية قابلة للزرع وغيرها.
وبعد عقد من الزمان لم يف الغرافين بوعوده الكبيرة، لكن المطلعين واثقون من أننا سنرى أخيراً الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية وأجهزة الاستشعار التي تستخدم تقنية تعتمد على الغرافين في السنوات القليلة المقبلة.
لماذا يعتبر الغرافين مادةً فائقة؟
بسمك ذرة واحدة فقط، تلبي طبقة من الغرافين جميع ما نحتاجه من المواد الفائقة، إذ تتميز هذه الذرة بأنها:
- أقوى 200 مرة من الفولاذ بحسب الوزن.
- أخف 1000 مرة من الورق.
- شفافة بنسبة 98%.
- توصل الكهرباء بشكل أفضل من أي مادة أخرى معروفة في درجة حرارة الغرفة.
- يمكنها تحويل الضوء بأي طول موجي إلى تيار.
- وأخيراً وليس آخراً، يتكون الغرافين من الكربون، وهو رابع أكثر العناصر وفرة في الكون، لذا فمن غير المحتمل أن ينفد مثل عناصر أخرى.
يحصل الغرافين على قوته الخارقة من هيكله. إذا كان بإمكانك التكبير بشكل قريب بما فيه الكفاية، فسترى أن طبقة الغرافين تبدو وكأنها قرص عسل مكون من ذرات. وتترتب ذرات الكربون الفردية في نمط سداسي يشبه سلك الدجاج. وكل ذرة كربون في طبقة من الغرافين مرتبطة تساهمياً بثلاثة عناصر كربون أخرى، ما يعطي المادة قوتها المذهلة.
لماذا يوصل الغرافين الكهرباء بشكل جيد جداً؟ مرة ًأخرى، بسبب الطريقة التي ترتبط بها ذرات الكربون. حيث تحتوي كل ذرة كربون على أربعة إلكترونات في غلافها الخارجي، لكن ثلاثة فقط من هذه الإلكترونات مشتركة مع ذرات الكربون الثلاث المجاورة لها.
فيما يُطلق على الإلكترون المتبقي اسم إلكترون باي، وهو حر في التحرك في فضاء ثلاثي الأبعاد، ما يسمح له بنقل الشحنات الكهربائية عبر لوح الغرافين بدون مقاومة تقريباً كما شرح موقع How Stuff Works الأمريكي. وفي الواقع، الغرافين هو أسرع موصل للكهرباء في درجة حرارة الغرفة مقارنةً بأيّ مادة معروفة.
الزاوية السحرية في الغرافين قد تغير كفاءة الأدوات الكهربائية نهائياً
هناك اكتشاف حديث قد يضيف قوة كبيرة أخرى إلى قائمة التباهي بالغرافين. حيث كان فريق من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) يجرّب الغرافين ثنائي الطبقات -طبقتان من الغرافين أحادي الذرة مكدستان معاً- عندما عثروا على خاصية جديدة شبه سحرية في الغرافين.
فعندما تُدور الطبقتان قليلاً خارج الخط الذي يجمعهما ببعضها البعض -إزاحة بمقدار 1.1 درجة بالضبط- يصبح الغرافين موصلاً فائقاً. والموصلات الفائقة هي أندر فئة من المواد التي توصل الكهرباء بدون مقاومة على الإطلاق وبدون حرارة.
وقد أحدث اكتشاف "الزاوية السحرية" للغرافين صدمةً في المجتمع العلمي. وعلى الرغم من أنّ التجربة أجريت في درجات حرارة منخفضة للغاية (قريبة من 0 درجة كلفن أو سالب 273.15 سيلزيوس)، إلا أنها فتحت إمكانية أنّه من خلال الجمع بين الغرافين والعناصر فائقة التوصيل الأخرى، أصبحنا أقرب من أي وقت مضى إلى الموصلية الفائقة في درجة حرارة الغرفة.
ومثل هذا الإنجاز سيحسن بشكل جذري كفاءة الطاقة لكل شيء من الأدوات، إلى السيارات، إلى الشبكات الكهربائية بالكامل.
هل نودع بطاريات الليثيوم أيون، ونحصل على أخرى تشحن أسرع وتدوم وقتاً أطول؟
لا تزال الموصلية الفائقة على بعد عقود، لكن المنتجات الثورية القائمة على الغرافين ستطرح في السوق في وقت أقرب بكثير بحسب ما يقول أندريا فيراري، أستاذ تكنولوجيا النانو ومدير مركز كامبريدج للغرافين.
إذ يقول فيراري: "بحلول عام 2024، ستكون هناك مجموعة متنوعة من منتجات الغرافين في السوق، بما في ذلك البطاريات والضوئيات وكاميرات الرؤية الليلية والمزيد".
وينتظر المستهلكون بفارغ الصبر البطاريات القائمة على الغرافين منذ سنوات. فبطاريات ليثيوم-أيون الموجودة في كل أدواتنا بطيئة نسبياً في الشحن، وتفقد محلولها بسرعة وتنتهي صلاحيتها بعد عدد معين من الدورات. ذلك لأن العملية الكهروكيميائية التي تشغل بطاريات الليثيوم-أيون تولد الكثير من الحرارة.
ولكن نظراً لأن الغرافين هو أكثر الموصلات الكهربائية كفاءة في العالم، فإنه ينتج قدراً أقل بكثير من الحرارة عند شحن أو تفريغ الكهرباء. وتَعد بطاريات الغرافين بسرعات شحن أعلى بخمس مرات من الليثيوم-أيون، وعمر بطارية أطول بثلاث مرات، وخمس أضعاف عدد الدورات قبل الحاجة إلى استبدالها.
وبالفعل، تعمل شركات الإلكترونيات مثل Samsung وHuawei بجدية على تطوير بطاريات تعتمد على الغرافين للهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة، ولكن أقرب تلك البطاريات ستطرح في السوق عام 2021.
أما بالنسبة لبطاريات الغرافين في السيارات الكهربائية -والتي يمكن أن تزيد بشكل كبير من مدى القيادة- فلا يزال أمامها بضع سنوات. إذ بنيت صناعة كاملة على تقنية أيونات الليثيوم ولن تتغير بين عشية وضحاها.
يقول جيسوس دي لا فوينتي، الرئيس التنفيذي لشركة Graphanea، وهي شركة تصنع وتبيع الغرافين النقي والرقائق القائمة على الغرافين للباحثين الأكاديميين وأقسام البحث والتطوير: "صناعة البطاريات متحفظة للغاية. قد يتغير تكوين البطاريات عدة مرات كل خمس إلى عشر سنوات، مما يجعل من الصعب للغاية إدخال منتجات جديدة في هذه الصناعة".
هناك عدد قليل من البطاريات القائمة على الغرافين في السوق، بما في ذلك بعض أجهزة الشحن السلكية واللاسلكية من شركة تدعى Real Graphene، ولكن هذه ليست سوى قمة جبل الجليد كما يقول فيراري، وهو أيضاً مسؤول العلوم والتكنولوجيا لدى Graphene Flagship -الذي يُعتبر تعاوناً بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي لتسريع تطوير تكنولوجيا الغرافين.
كما يصنع بالفعل شركاء الأبحاث -مع Flagship- بطاريات الغرافين التي تتفوق على أفضل الخلايا عالية الطاقة اليوم بنسبة 20% في السعة و15% في الطاقة. وبنت فرق أخرى خلايا شمسية تعتمد على الغرافين، وهي أكثر كفاءة بنسبة 20% في تحويل ضوء الشمس إلى كهرباء.
استخدامات أخرى للغرافين: قد تحقن داخل دمنا لمراقبة صحتنا!
في حين أنّ بطاريات الغرافين قد تكون أولى استخدامات الغرافين التي تظهر في السوق، فإن الباحثين منشغلون في تطوير تطبيقات أخرى لا حصر لها لهذه المادة المعجزة، من قدرتها على مراقبة صحتنا وعلاج بعض الأزمات الصحية وتجنيب الجسم لها، إلى تحلية مياه البحر وتنقية المياه، وصولاً إلى تقوية قدرة الكاميرات وأجهزة الاستشعار على التقاط أضعف الإشارات.
إذ تشكل المستشعرات الحيوية أهمية كبيرة. فتخيل شريحة رقيقة ومرنة بشكل لا يصدق يمكن حقنها في مجرى الدم لمراقبة البيانات الصحية في الوقت الفعلي، مثل مستويات الأنسولين أو ضغط الدم. أو واجهة غرافين ترسل إشارات ذهاباً وإياباً إلى الدماغ لاكتشاف نوبة صرع قادمة أو حتى منعها. ويمكن أيضاً ارتداء أجهزة استشعار رفيعة قابلة للمط على الجلد أو نسجها في نسيج الملابس.
وعلم الضوئيات هو مجال آخر يحتوي بالفعل على الغرافين. فمن خلال دمج الغرافين في شرائح حساسة للضوء، يمكن للكاميرات وأجهزة الاستشعار الأخرى تحسين الحساسية بشكل كبير حتى لأضعف موجات الضوء عبر الطيف المرئي وغير المرئي. لن يؤدي ذلك إلى تحسين جودة الصور للكاميرات والتلسكوبات فحسب، بل سيؤدي أيضاً إلى تحسين الصور الطبية.
والترشيح هو تطبيق واعد آخر للغرافين. فبوليمارات الغرافين المضاف لمرشحات تنقية المياه البسيطة المصنوعة يمكن أن ترتبط بالملوثات العضوية وغير العضوية في مياه الشرب. وابتكر الباحثون لدى Graphene Flagship أيضاً تقنيات تحلية المياه القائمة على ثنائيات الغرافين التي يمكنها إزالة أكثر من 60% من الملح من مياه البحر للاستخدامات الزراعية وغيرها.
وستستغرق كل هذه التطويرات بعض الوقت، لكن فيراري في مركز كامبريدج للغرافين واثق من أنّ الغرافين سيرتقي إلى مستوى الضجة المثارة. وفي الواقع، إنه متحمس بنفس القدر بشأن الخصائص غير المكتشفة بعد لما يقدر بألفي مادة أخرى أحادية الطبقة يمكن عزلها أيضاً بطريقة الشريط اللاصق أو غيرها.
إذ يقول فيراري: "نقول الغرافين، لكننا نتحدث حقاً عن عدد كبير من الخيارات التي يجري استكشافها. الأمور تسير في الاتجاه الصحيح".