هل تستطيع شركات النفط التكيف مع آثار جائحة كورونا التي تتزامن مع اتجاهات عالمية قوية تهدف إلى تعزيز السيارات الكهربائية.
وانهار الطلب على النفط بسبب جائحة كورونا وإجراءات الإغلاق المرتبطة بها، ليصل إلى أدنى مستوى له في أبريل/نيسان الماضي عند 76 مليون برميل يومياً، بانخفاض 25% عن 102 مليون برميل يومياً الذي كان عليه في ديسمبر/كانون الأول 2019.
ورغم إعادة فتح الاقتصادات وعودة الرحلات الجوية والحركة، فإن انتعاش الطلب على النفط لا يزال أمراً غير مؤكد.
ومع ذلك، فإنه من نواح عديدة أخرى، أدّت جائحة كورونا إلى إبراز التحديات والتغيرات التي كانت تمر بها صناعة النفط والغاز، وهو ما يسّر للصناعة الاستجابةَ على نحو أسرع بكثير، حسبما ورد في تقرير لمجلة Forbes الأمريكية.
انكماش غير مسبوق، والبعض لن ينجو
تخلَّت معظم شركات النفط والغاز عن دليل التشغيل الذي اعتمدته في 2014 [مع انهيار أسهار النفط آنذاك] والطريقة التي كانت تدير بها الأمور بعدها وعادت لتستعين بأدوات تقليدية إلى حد ما من الدورات السابقة لتقلب الأسعار العالمية للسلع الأولية لتنجو على المدى القصير، أدوات مثل إدارة السيولة وخفض التكاليف وتقليص العمليات.
غير أن هذا الانكماش يختلف عن غيره في الدورات الماضية، لأن ضغوط انخفاض الأسعار ستبقى بسبب الاتجاه الأطول مدى للتخلص من مصادر الطاقة الباعثة للكربون.
ومع انتقال الشركات من وضع السعي إلى النجاة ومحاولة البقاء على قيد الحياة إلى وضع المواكبة للتغيرات وإعادة تهيئة نفسها على المدى الطويل، ستكون هناك حاجة إلى دليل تشغيل جديد لإدارة الأمور.
ومن ثم يحتاج المديرون التنفيذيون لشركات النفط والغاز إلى إجراء تقييم شامل لرصد القدرات والكفاءات التي سيتوقف عليها النجاح في التحول إلى مرحلة ما بعد الطاقة النفطية إلى الطاقة المتجددة، ومعرفة الثغرات وسدِّها. لا يوجد نهج واحد يناسب الجميع، ولن تستجيب الصناعة بقطاعاتها المختلفة في انسجام تام. والمتوقع أن تسير الشركات في مسارات مختلفة، والاستراتيجيات التي تنجح هي التي ستشكل مستقبل الصناعة.
وعلى هذا النحو، فإن عملية إعادة تشكيل صناعة الطاقة ستجري على ثلاث مراحل: الآن/المرحلة الحالية، والمرحلة التالية/مرحلة التحول، وما بعد مرحلة التحول [مرحلة الانتقال إلى الطاقة البديلة عن النفط والغاز].
هل تستطيع شركات النفط التكيف مع آثار جائحة كورونا؟
تحتاج عملية التكيف من قبل شركات النفط والغاز مع تداعيات جائحة كورونا والاتجاهات الأطول أمداً الداعمة للوقود البديل إلى خوص الشركات لثلاث مراحل هي:
أهداف المرحلة الحالية: حماية الشركات
مرحلة "الآن" تتعلق بالاستجابة الآنية للأزمة، والشركات حالياً في نهاية تلك المرحلة أو تقترب من نهايتها. كان على شركات النفط والغاز التكيفُ في آن واحد مع التحديات التشغيلية للقيام بعملياتها الأساسية والتحديات المالية المتمثلة في انخفاض الإيرادات والتدفقات النقدية.
بعد ذلك، استقر السوق مع انتعاش الطلب تدريجياً وتقليص المنتجين لإنتاجهم، إلا أن تلك المرحلة كان، وسيكون، لها ضحايا. فقد أدى العرض الزائد من النفط والغاز وفي الوقت ذاته انخفاض الأسعار إلى إفلاس بعض الشركات وانهيار أوضاعها، والمثال الأبرز على ذلك شركات عمليات المنبع واستخراج النفط الأمريكي. وقد تقدمت أكثر من 20 شركة نفط وغاز في الولايات المتحدة بالفعل بطلبات لإعلان الإفلاس في عام 2020.
قد يكون من المغري تجاهل هذه الموجة من طلبات إعلان الإفلاس باعتبارها فصلاً آخر من فصول التعامل التقليدي مع أزمات النفط والغاز، إلا أن واقع الأمر أن تلك الجولة تبدو مختلفة. وفي حين أنه من المتوقع بالطبع أن بعض الشركات ستخضع لإعادة هيكلة وتغييرات في الملكين وفرق الإدارة، فإن كثيراً منها سيتوقف عن العمل ببساطة. إذ ستؤدي الأسعار المنخفضة وصعوبة توفير رأس المال لشركات خدمات المنبع وحقول النفط في أمريكا الشمالية إلى المزيد من حالات الإفلاس وبيع الأصول والاندماج في شركات أخرى. والمنتظر أن يراقب المشترون بعناية أسواق السلع، ومع انخفاض التقلبات في السوق، يمكن أن يؤدي ذلك إلى توضيح التقييمات والشروع في زيادة حجم الصفقات. بالمضي قدماً، سيطلب المستثمرون عائدات أعلى، وسيتعين على المنتجين ممارسة انضباط أحكم لسبلِ إنفاق رؤوس الأموال والتركيز على العوائد المالية بدلاً من نمو حجم الشركات وتوسيع الأعمال.
المرحلة التالية: تعزيز الأعمال القائمة وتحديث الاستراتيجية
حتى تعثر الشركات على توازنٍ ما واستقرار بين العرض والطلب، ستظل الربحية تواجه تحديات في العموم، وقد تكون هناك فترات من العرض الزائد (وانخفاض الأسعار). لكن ومع انتقال الشركات من وضع البقاء على قيد الحياة إلى المرحلة "التالية"، فإنها ستحتاج إلى تحديث استراتيجيتها وتعزيز أعمالها القائمة. وللقيام بذلك، ستحتاج الشركات إلى تخطيط ودعم إعادة إطلاق العمليات التشغيلية مع التركيز على الاستعانة بالتكنولوجيا وطرق جديدة للعمل. هذه المرة، يجب أن يكون التركيز على كفاءة التكلفة [تخصيص الموارد المالية بالطريقة المثلى لخدمة الشركة من خلال تقليل المصروفات غير اللازمة والالتزام بالأهداف وسد ثغرات الهدر المالي] وتحسين الفاعلية التشغيلية لإنتاج المزيد بتكلفة أقل.
في فترات الانكماش السابقة، كان التركيز على كفاءة استخدام رأس المال والحفاظ عليه وخفض التكاليف. وقد يكون المغري الاعتقاد بأن كل ما يمكن فعله لخفض التكاليف وتحسين الإنتاجية وخلق المرونة المالية قد تم عمله بالفعل. غير أنه، لا تزال هناك إمكانية كبيرة مطروحة فيما يتعلق بالرقمنة لتحسين الكفاءة صعوداً وهبوطاً عبر "سلسلة القيمة" وفي مجموع النشاطات التي تؤديها الشركات.
جعلت التطورات في الأجهزة والبرمجيات الرقمية من الممكن لمشغلي عمليات المنبع دمجَ التخطيط لمختلف المراحل في عملية الاستكشاف والإنتاج. ورغم الابتكارات المهمة التي تم تنفيذها بالفعل، فإن هناك فرصاً كبيرة أخرى لتحسين النسق من خلال تمكين الأنظمة من التواصل مع بعضها وتقاسُم نسخة واحدة من الكميات الهائلة من البيانات التي تُجمع خلال عمليات الحفر. ومن ثم، يمكن تقليل الأخطار وتحسين السلامة وتوفير الوقت، ويصبح النفط أرخص في إنتاجه وتوصيله إلى المستهلكين.
أضف إلى ذلك أن الإمكانات غير المستغلة للرقمنة في قطاع المصب من صناعة النفط إمكانات هائلة. فبخلاف الفارق بين أسعار النفط الخام وأسعار المنتجات (التي لا يمكن السيطرة عليها)، فإن العامل الأهم في تحديد ربحية المصفاة هو التوقفات غير المخطط لها. فالمصفاة التي لا تعمل، لا تجني مالاً. ومن ثم، يمكن أن تساعد أدوات المراقبة عن البعد والذكاء الاصطناعي والصيانة التنبؤية في تجاوز أي مشكلات يمكن أن تؤدي إلى إغلاق المصفاة حال تفاقمها. التكرير أيضاً يتطلب الكثير من الطاقة، ويمكن للرقمنة تحسين استخدام الحرارة وخفض التكلفة. وقد كانت الصناعة تسير بالفعل في هذا الاتجاه، غير أنه الآن ومع جائحة كورونا والأزمة في معدلات الطلب والعمل عن بعد ومتطلبات التباعد، فإن الرقمنة تضاعفت فوائدها.
بعيداً عن الرقمنة، هناك ثلاث استراتيجيات أخرى يمكن لشركات النفط والغاز اتباعها لتحقيق أفضل استفادة من الحاضر وتأمين مستقبلها. الاستراتيجية الأولى: تأمين تدفقات الإيرادات من خلال الدمج الرأسي وأن توسع الشركات مجال عملها بحيث تصبح عميلة لنفسها. فشركات استخراج النفط الكبرى يمكنها الولوج إلى أعمال التكرير وإنشاء حصة لنفسها في سوق النفط الخام، وثمة فرص متاحة على طول سلسلة النشاطات في صناعة النفط. الاستراتيجية الثانية: الحفاظ على السيولة المالية، وقد غدا ذلك أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى والسبيل الواضح لذلك هو تحويل التكاليف الثابتة إلى تكاليف متغيرة من خلال الخدمات المشتركة أو الاستعانة بمصادر خارجية. الاستراتيجية الثالثة: الحد من الاستثمار الرأسمالي دون تقليص الأعمال بالضرورة. فالاعتماد على ميزانية أخف وزناً وأكثر مرونة يحقق عوائد أعلى. كما أن الاستفادة من الخبرات الفنية واللوجستية المختلفة لتوفير الطاقة لعميل عالمي متغير باستمرار أحد السبل الجديرة بالاستكشاف والسعي إليها. ويمكن للرقمنة وتحليلات بيانات المستهلكين أن تقدم مساعدة كبيرة هنا، ما يمكّن الشركات من استثمار أصول شركات أخرى، من خلال تنسيق الاستخدام فيما بينهما ومن ثم تقديم المنتج المناسب إلى السوق في وقته المناسب تماماً. وقد يكون قطاع توفير الطاقة بوصفها خدمة، على غرار تطور نموذج أعمال شركات البرمجيات، قد وصل أخيراً كنموذج جديد محتمل لبعض الشركات.
مرحلة ما بعد التحول: استيعاب التحول في قطاع الطاقة الذي يبدو أنه سيكون نهائياً
تتمحور مرحلة "التجاوز إلى مرحلة الطاقة المتجددة" حول كيفية تكيف النفط والغاز مع عالم الطاقة الجديد.
القوى الدافعة هي تعطُّل الاقتصاد بسبب جائحة كورونا، واتجاه التخلي عن مصادر الطاقة الباعثة للكربون. إذ تدفع القوتان لمصلحة انخفاض الطلب على النفط والغاز، وسيتعين على صناعة النفط والغاز الاستجابةُ لتلك القوى.
علاوة على ذلك، فإن السعي لتجاوز الأوضاع الحالية قد يُشعر الحكومات في جميع أنحاء العالم بالحاجة إلى تحفيز الاقتصاد بواسطة مشروعات البنية التحتية، والتي يمكن أن تشمل مشروعات للطاقة المتجددة وإقامة البنى التحتية لشحن السيارات الكهربائية.
وهناك سابقة لذلك، إذ دفعت حزمة التحفيز الأمريكية في أعقاب الأزمة المالية عام 2009 إلى استثمار أكثر من 100 مليار دولار في قطاع الطاقة المتجددة. وإذا حدث ذلك اليوم، سيدفع ذلك إلى تسريع التحرك نحو التخلي عن مصادر الطاقة الباعثة للكربون.
المرونة والقدرة على التكيف هما جوهر النجاح. وكثير من الكفاءات التي تعتمدها شركات النفط والغاز في منتجاتها الجديدة يجب الاستعانة بها وتطبيقها في نماذج الأعمال الجديدة. يكون التحول في قطاع الطاقة إلى الطاقة المتجددة أكبر عملية إعادة تخصيص وتوزيع لرؤوس الأموال والموارد المالية في تاريخ البشرية. وسيكون من الصعب المضي فيها دون استخدام الميزانية العمومية الخاصة بشركات النفط اليوم.
ليس من السهل أبداً تغيير الوجهة، ومع ذلك فإنه دائماً ما يخلق فرصاً جديدة. والتحول في قطاع الطاقة كان قادماً على أي حال، حتى إنه بحلول الوقت الذي يتعافى فيه الطلب على الطاقة من آثار جائحة كورونا، قد يصبح هذا التحول واقعاً متحققاً أمامنا.