إذا استمعت إلى نشيد البحريّة الأمريكيّة فستجد اسم مدينة طرابلس الليبيّة في بداية النشيد "من قاعات مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس، نحن نقاتل معارك بلادنا"، فما هي قصّة طرابلس وإعلانها الحرب على أمريكا، وما هي نتيجة الحرب؟
ليبيا.. صاحبة الكلمة الأخيرة في المتوسط
لنشرح الأمر بتفاصيل أكثر يجب علينا أن نعود إلى الوراء قليلاً. فقد كانت طرابلس الليبية مركزاً ذا أهمية كبيرة على سواحل البحر المتوسّط، تأسّست هناك أسرةٌ حاكمة تابعة للدولة العثمانيّة، تعود أصولها لولاية قرمان في الأناضول (تركيا الحالية). كان أحمد القرمانلي ضابطاً في الجيش العثماني في ليبيا، وفي الوقت المناسب استطاع الإطاحة بالحاكم وفرض سيطرته على ليبيا.
وافق السلطان العثماني على تعيين أحمد القرمانلي باشا وحاكماً على ليبيا ومنحه قدراً كبيراً من الحكم الذاتي، وبهذا أصبحت تلك الأسرة هي الحاكمة في ليبيا، بتبعيَّةٍ اسميّة للسلطان العثماني في إسطنبول. وقد حكمت تلك الأسرة ليبيا من عام 1711 وحتّى عام 1835.
وفي عهدهم كانت ليبيا تمتلكُ أسطولاً بحرياً مهيباً ما جعلها ذات الكلمة الأولى والأخيرة في البحر المتوسّط في تلك الفترة. وكانت أغلب الدول الأوروبيّة تدفع "جزية" لوالي طرابلس القرمانلي لحماية وعدم التعرُّض لسفنها المتحرّكة في البحر المتوسّط، وهكذا كانت أمريكا.
كان جورج واشنطن هو أوّل رئيس للولايات المتحدة الأمريكية وهو موقّع أوّل اتفاقيّة تعاون بينه وبين ليبيا ومركزها طرابلس، فيما عرف بـ"اتفاقية السلام والصداقة" التي وقّعت في 4 نوفمبر/تشرين الثاني في طرابلس 1797، الموافق 3 رمضان من عام 1211 هجرياً، وفق ما ذكر في نص الاتفاقية.
كانت تلك المعاهدة هي المعاهدة التي عرّفت فيها الولايات المتحدة نفسها باعتبارها دولة ليست مسيحيّة الدين وبالتالي فليس لها أيّ موقفٍ معادٍ من ليبيا، أو الدول الإسلاميّة، أو الدين الإسلامي.
تطوّرات الأحداث.. يوسف باشا وإعلان الحرب على أمريكا
يعتبر يوسف باشا القرمانلي أقوى أفراد عائلة القرمانلي التي حكمت ليبيا طيلة قرن وربع من الزمان، فقد استولى على السلطة بعد قتله أخيه، وأحكم قبضته على الحكم في طرابلس، وعلى البحر المتوسّط كاملاً.
كانت الأمور تتطوّر في أمريكا أيضاً خطوةً بخطوة، وما زال الآباء المؤسسون لأمريكا يكتشفون مواطن الخلل ليعالجوها، وكانت أمريكا في تلك الفترة ضعيفة ومتذبذبة بعض الشيء فلم يكن لديها تلك البحريّة الضخمة التي لديها اليوم، ولا هذا الجيش الأقوى في العالم.
وفي عام 1801 أصبح توماس جيفرسون رئيساً للولايات المتحدة، وقرّر خفض الإنفاق العسكري الأمريكي، وأوقف عمل بعض السفن الأمريكية. تأخّرت الجزية المفروضة على أمريكا، ما جعل يوسف باشا القرمانلي يعلن الحرب على أمريكا، وهذا يعني تصيّده لكلّ ما يحمل العَلَم الأمريكي في البحر المتوسّط. وكسر سارية العلم الأمريكي على القنصلية الأمريكية في طرابلس. وعندما احتجّ لديه القنصل أمره بمغادرة طرابلس، وبالفعل، خلال 10 أيّام كان القنصل الأمريكي قد غادر طرابلس.
لكنّ جيفرسون لم يستسلم بسهولة، فقد أرسل فرقاطتين كبيرتين لمهاجمة ميناء طرابلس، وقد كان بالفعل، فقد قصفت الفرقاطتان الأمريكيتان طرابلس، وبدأت المناورات في البحر المتوسّط بين يوسف باشا القرمانلي والبحرية الأمريكيّة، وفي عام 1803 استطاعت طرابلس أن تأسر الفرقاطة "فيلادلفيا"، بكلّ الطاقم الذي عليها والمكوّن من 300 بحّار أمريكي! لكنّ القائد الأمريكي ديكاتور استطاع التسلل للميناء وأحرق الفرقاطة فيلادلفيا، وبسبب هذه الحركة المباغتة اعتبر بطلاً قومياً في أمريكا.
ذهبت أمريكا إلى أبعد من ذلك، عندما اقترح القنصل الأمريكي في تونس وليام إيتون أن تتدخّل أمريكا لإزاحة يوسف باشا قرمانلي من الحكم في طرابلس تماماً، بدخولها في تحالف مع أخيه أحمد المنفيّ في مصر.
لم تنجح الخطّة في إزاحة يوسف باشا القرمانلي، احتلّت القوات الأمريكية مدينة درنة شرق ليبيا عام 1805 ما أكسبها موقفاً تفاوضياً مميزاً في استردادها لطاقمها المأسور في طرابلس، المكون، من 300 بحّار. وانتهت هذه الحرب عام 1805 باتفاقية أخرى كانت أهمّ بنودها كالتالي:
نهاية أسرة القرمانلي في ليبيا
بعد سنوات قليلة وبسبب التطورات الإقليميّة والعالمية فقدت ليبيا وكذلك الجزائر وتونس ميزتهم الحربيّة في البحر المتوسّط، وفي نفس الوقت أصبحت قوّة فرنسا وبريطانيا البحرية قويتين كفاية لفرض نفسيهما بديلين عن الأساطيل الليبية والجزائرية والتونسية، وبهذا بدأ عصرٌ جديد، هو العصر الاستعماري للدول الأوروبيّة.
ففي عام 1830 غزت فرنسا الجزائر، واستمرّ استعمارها أكثر من قرن، وتوسّعت في بقية القارة الإفريقية الشاسعة، وكذلك فعلت بريطانيا. وفي عام 1832 اضطرّ يوسف باشا القرمانلي بسبب الضغوط الداخلية وتدهور الاقتصاد الذي جعله يفرض العديد من الضرائب، اضطر إلى التنازل لابنه علي.
لكنّ السلطان العثماني لم يمهل ابنه كثيراً، فقد وصلت جيوش السلطان عام 1835 إلى ليبيا وبسطت سيطرتها وسلطانها عليها واقتيد علي بن يوسف باشا القرمانلي إلى إسطنبول، وبهذا انتهت أسرة القرمانلي التي أعلنت الحرب على أمريكا واضطرتها للتوصُّل إلى تسوية عادلة معها.