فيما يدأب الكثير من العلماء للبحث عن لقاح ضد فيروس كورونا المستجد، يجد آخرون الإلهام في أبحاث قديمة أجراها أطباء سوفييتيون للقضاء على الفيروسات، ويتساءلون: لم لا نقوم بتطوير وتطويع لقاحات موجودة بين أيدينا مثل لقاح شلل الأطفال مثلاً للقضاء على جائحة كورونا؟
لكن ما علاقة شلل الأطفال بالفيروس المستجد؟ وكيف ألهمت تجربة سوفيتية استخدم فيها الأطفال كفئران للتجارب العلماء اليوم للقضاء على جائحة كورونا؟ وهل سيكون السبق في إيجاد اللقاح لروسيا وإيران اللتان بدأتا بدراسات جديدة في هذا المجال؟
إليكم القصة من البداية كما وردت في صحيفة The New YorK Times الأمريكية.
لقاح فيروس كورونا المستوحى من التجارب السوفييتية
في خمسينيات القرن الماضي، كانت الطبيبة مارينا فوروشيلوف وزوجها يحاولان تطوير لقاح "موهن" ضد شلل الأطفال.
تتميز اللقاحات "الموهنة" بأنها أمصال تحتوي على فيروسات حية، لكنها ضعيفة أو موهنة وتعطى للمرضى عن طريق الفم، وهي على عكس اللقاحات الخاملة، التي تستخدم فيروسات ميتة تحقن في جسم المريض لتطوير مناعة ضدها داخل الجسم.
وفي حين استحدث الطبيب الأمريكي جوناس سولك لقاحاً "خاملاً" ضد شلل الأطفال في عام 1955، حاول طبيب يدعى ألبرت سابين تطوير لقاح "موهن" ضد المرض من الممكن تناوله عبر الفم، إذ كان أسلوب الحقن يشكل عقبة كبيرة لحملات التطعيم في الدول الفقيرة.
وقد منح الدكتور سابين سُلالاته الثلاث من الفيروس المُوهن لزوجين من عُلماء الفيروسات في الاتحاد السوفييتي لتطوير اللقاح، وهما الدكتور ميخائيل شوماكوف، مؤسس معهد بحوث لمرض شلل الأطفال يحمل اسمه الآن، والدكتورة مارينا فوروشيلوف.
في البداية تناول الدكتور شوماكوف اللقاح، بيد أن اللقاح المُعد في المقام الأول للأطفال كان بحاجة إلى أن يُختبر على أطفال، لذا قرر الزوجان تجربة اللقاح على أطفالهما.
فقاما في عام 1959 بحقن فيروس شلل الأطفال الموهن في قطعة سكر، ثم قاما بإعطائها للأطفال ليتناولوها.
لحسن الحظ لم يصب الأطفال أي أذى، وتمكن الزوجان من إقناع أحد كبار المسؤولين السوفييتيين، وهو أنستاس ميكويان، باستكمال التجارب على نطاقٍ أوسع، ما أدى في نهاية المطاف إلى الإنتاج الضخم للقاح شلل الأطفال الفموي المُستخدم في جميع أنحاء العالم.
وكبر أطفال عائلة فوروشيلوف ليصبحوا أطباء مهتمين – كوالديهما – بالأبحاث المتعلقة بالفيروسات، أحدهم يدعى الدكتور بيتر شوماكوف الذي يعتقد أن هذا اللقاح الذي طوره والداه قد يكون سلاحاً مُحتملاً ضد فيروس كورونا المُستجد.
ما علاقة لقاح شلل الأطفال بفيروس كورونا؟
لا يحظى لقاح شلل الأطفال باهتمام بيتر شوماكوف ووالدته مارينا فحسب، إذ يعتقد عدد من العلماء الآخرين كذلك أن هذا اللقاح قد يكون له دور في إيقاف جائحة كورونا الحالية.
تقول الدكتور مارينا إن أطفالها لم يصابوا بأي أمراض فيروسية لمدة 6 أشهر تقريباً بعد تناولهم للقاح شلل الأطفال، حتى أنها قد اعتادت منحهم اللقاح كل خريف وقايةً لهم من الإنفلونزا.
فقد لاحظت مارينا أن الطفل السليم المُعافى يحتضن حفنة من الفيروسات التنفسية التي قد تتسبب في قدرٍ ضئيلٍ من المرض أو قد لا تتسبب بأي على الإطلاق، إلا أن الأطفال الذين تناولوا لقاح شلل الأطفال الفموي لا يملكون أياً من هذه الفيروسات.
كما وجدت دراسة هائلة أُجريت في الاتحاد السوفييتي على 320 ألف مُشارك في الفترة بين عامي 1968 و1975، تحت إشراف الدكتور مارينا، أن مُعدلات الوفيات جراء الإنفلونزا تناقصت لدى الأشخاص الذين حُصنوا بلقاحاتٍ أخرى من بينها لقاح شلل الأطفال الفموي.
لذا تعتقد الطبيبة أن اللقاح قد يكون ناجحاً كذلك بحالة فيروس كورونا المستجد، وقد تحمس زوجها الطبيب شوماكوف كذلك للفكرة لدرجة أنه تناول هذا اللقاح كوقاية محتملة من فيروس كورونا.
اجتذبت الفكرة اهتمام العلماء الذين يعتقدون أنه بدلاً من إنتاج لقاح جديد ضد فيروس كورونا من الممكن تطويع اللقاحات المتواجدة بين أيدينا حالياً مثل لقاح شلل الأطفال ولقاح مرض السل لاستخراج لقاح يقضي على الجائحة.
وتجري الدراسات حالياً لتحديد قدرة هذه اللقاحات على مقاومة فيروس كورونا ولو بصفة مؤقتة.
فكرة يجب التعامل معها بحذر
لعل العلماء الروس هم أكثر المتحمسين لفكرة تجربة قدرة اللقاحات الحالية مثل لقاح شلل الأطفال على التصدي لفيروس كورونا.
لكن أفاد الخبراء بأنه يتوجب التعامل بحذر مع تلك الفكرة مثلها في ذلك مثل السُبل الأخرى المُقترحة للتصدي للجائحة.
يقول الدكتور بول إيه أوفيت، الذي شارك في اختراع لقاح ضد فيروس الروتا (الفيروس العجلي) والأستاذ الجامعي في مدرسة بيرلمان للطب في جامعة بنسلفانيا: "نحن في غنى عن لقاح يُحفز الجسم على تكوين استجابة مناعية مُعينة"، مضيفاً أن أي فوائد يُمكن أن تعود علينا من لقاحٍ مُعدلٍ (مثل لقاح شلل الأطفال) تكون "قصيرة المدى ومنقوصة" مُقارنة بلقاحٍ مُعد خصيصاً ضد فيروس كورونا.
رُغم ذلك، قال الدكتور روبرت غالو، أحد أبرز مؤيدي اختبار لقاح شلل الأطفال ضد فيروس كورونا، إن تطويع اللقاحات "واحدة من أكثر المسائل إثارة للجدل في علم المناعة"، مضيفاً: "حتى وإن كان فيروس شلل الأطفال المُوهن يمنح حصانة تستمر لشهر فقط أو ما شابه ذلك، فهو يُساعد على تخطي مرحلة حرجة من المرض، ويُساعد في إنقاذ أرواح الكثيرين".
الأمر لا يخلو من مخاطر
صحيح أن مليارات الناس قد أخذوا لقاح فيروس شلل الأطفال المُوهن، ما قضى تقريباً على المرض، إلا أنه في حالاتٍ شديدة النُدرة، يُمكن للفيروس المُوهن المُستخدم في اللقاح أن يتحور إلى نُسخة أشد خطورة، ويتسبب في شلل الأطفال ويُصيب أشخاصاً آخرين.
تُقدر خطورة التعرض للشلل بنسبة واحد من بين 2.7 مليون عملية تلقيح.
لهذه الأسباب، يقول مُمثلو منظمات الصحة العامة إنه حالما تقضي إحدى المناطق على شلل الأطفال الذي يحدث بصورة طبيعية، يجب عليها منع عادة أخذ اللقاح الفموي، مثلما فعلت الولايات المُتحدة الأمريكية منذ عشرين عاماً.
وقد أرجأ المعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدية دراسة لمعهد الدكتور غالو وجامعة بافالو ومؤسسة كليفلاند كلينيك ومركز روزويل بارك الشامل لأمراض السرطان، لاختبار فاعلية لقاح فيروس شلل الأطفال الحي ضد فيروس كورونا، باستخدام العاملين في مجال الرعاية الصحية أداةً لهذا الاختبار.
إذ أثارت الوكالة مخاوف تتعلق بالسلامة بما في ذلك احتمالية تسرب فيروس شلل الأطفال إلى إمدادات المياه وإصابة الآخرين، وفقاً لباحثين على دراية بطريقة تطبيق الدراسة.
روسيا وإيران تشرعان في التجارب
بالرغم من المخاطر المحتملة هناك دول تمضي قدماً في هذه الدراسات.
فقد بدأت تجارب لقاح شلل الأطفال في روسيا ومن المُقرر بدؤها في إيران وجمهورية غينيا بيساو.
سيكون من شأن اللقاح المُعد خصيصاً لفيروس كورونا أن يُدرب الجهاز المناعي على استهداف ذلك الفيروس على وجه التحديد، وما زال أكثر من 125 تجربة للقاحٍ قيد التطوير في جميع أنحاء العالم.
في المُقابل، تستخدم اللقاحات المُطوعة فيروسات أو بكتيريا حية لكن مُوهنة كي تُحفز الجهاز المناعي الفطري على مُحاربة مُسببات الأمراض على نطاقٍ أوسع، ولو بصورةٍ مؤقتة.