تمايلت الزينة بألوانها الذهبية والفضية مع نسمات الهواء العابرة، علّقها الأهالي من منزل إلى منزل في الزقاق، احتفالاً بحلول شهر رمضان المبارك. جرت العادة أن تقدم الجدة المصرية غالية عبدالوهاب الطعام لجيرانها في كل مناسبة، أطباقاً كبيرة من أوراق الملفوف المحشوة أو الكعك أو خبز الصاج المسطح، لا توجد أسرة في الشارع لم تستمتع بطعامها.
لكن الزقاق الواقع في بهتيم، على حدود القاهرة، بات صامتاً. فقد توفيت السيدة غالية عبدالوهاب، عن عمر يناهز 73 عاماً، وابناها. حلّ فيروس كورونا بالعائلة وأصاب 45 شخصاً من دائرتها المقربة، ليضطر نحو 2000 شخص من جيرانها في المنطقة إلى العزل صحياً وإغلاق منازلهم لأسابيع، كما تروي ذلك وكالة Associated Press الأمريكية.
محبوها يتوسلون طريقة لدفنها
الخوف من الفيروس ترك أقارب الجدة المحبوبة يتوسلون طريقة لدفنها، بعد أن منع بعض سكان الحي الذي عاشت فيه طوال حياتها المديدة دفنها في المقابر المحلية.
تقول إحدى جيرانها، السيدة أم جودة، وهي تقاوم دموعها: "كل ذكرياتي معها حلوة.. لقد كانت تساعدنا باستمرار، وكانت دائماً ما تحيط أهل الشارع كلهم برعايتها كما لو أنهم أطفالها".
كانت أم جودة الصديقة المقربة لغالية عبدالوهاب لأكثر من 40 عاماً، منذ أن انتقلت أم جودة لتسكن مقابلها في الزقاق. ومن أول يوم، فتحت لها غالية منزلها، وسمحت لأطفال أم جودة بالاستحمام فيه حتى أنهت صديقتها بناء منزلها.
على مدى العقود الأربعة التالية، عاشوا معاً على جانبي الزقاق الضيق الذي يمكن لكل منهما فيه تقريباً أن تميل من نافذتها وتساعد الأخرى في نشر ملابسها على حبل الغسيل. لقد شاهدوا أطفال بعضهما يكبرون. طبخوا معاً وفي السوق الواقع إلى الشارع المجاور تسوقوا معاً.
أمّ مكافحة
جاءت غالية عبدالوهاب، ابنة أسرة زراعية في دلتا النيل، إلى بهتيم في الستينيات مع زوجها بعد مدة وجيزة من زواجهما. كانت الحكومة قد عمدت إلى تحويل المنطقة، التي تعتبر امتداداً لمدن صغيرة وتقع وسط الحقول الخضراء وقنوات متفرعة من النيل شمال القاهرة مباشرة، إلى مركز صناعي. وكان الزوجان الشابان من بين أهل القرى الريفية الذين تدفقوا للعمل في مصانع النسيج والمعادن والسيراميك الجديدة التي أقامتها الدولة.
وجد زوجها وظيفة لنفسه عاملاً في مصانع هيئة المشروعات الصناعية والتعدينية، وهي تكتل حكومي لصناعات الحديد والصلب. وقامت غالية من جانبها بتربية الدجاج في المنزل كمصدر دخل ثانٍ للبيت. رُزق الزوجان بثمانية أطفال، منهم أربعة أبناء، وجد معظمهم وظائف أيضاً في المصانع القريبة، وأربع بنات سرعان ما تزوجن وأصبح لكل واحدة منهن أسرة خاصة بها.
"جوهرة العائلة"
على مر العقود التالية، اضمحلت الأوضاع في المصانع، وأُهملت مع انتقال الدولة من الاشتراكية إلى سياسات الخصخصة. باتت المنطقة أفقر، وتدفق المزيد من مهاجري الريف الفقير للسكن فيها. لتجد غالية منطقتها وقد تحولت إلى زحف عشوائي متداع من أبراج خرسانية مكتظة بالسكان ومبنية بطرق غير قانونية تمتد لأميال، حيث مرافق الصرف الصحي متدهورة، وقنوات النهر مفروشة أو مختنقة بالقمامة.
ومع ذلك، فإن الجدة غالية حافظت على كرمها دائماً. وعندما أُرسل زوج جارة أخرى، زينب إسماعيل، إلى السجن لفترة من الوقت، تدخلت غالية للمساعدة، وأعطتها المال لتدفع مصاريف المدارس لبناتها.
تقول زينب: "لقد ساعدتني دون حتى أن أسأل. الحاجة غالية فعلت كل شيء لمساعدتنا، أعطتني المال والطعام وكل شيء احتجته".
تُوفي الزوج في 2018، لكن غالية كان لديها عائلتها بالقرب منها، فأبناؤها وأسرهم يعيشون في نفس المبنى معها. يصفها أحد أحفادها، سيد ناصر، بأنها "جوهرة العائلة".
وقال ناصر: "كانت جدتي في غاية العطف، تبدي لطفاً لا يُصدق مع جميع الناس، الأقارب وغير الأقارب".
أصاب الفيروس ابنها عبدالرؤوف في مارس/آذار. عندما ذهب إلى المستشفى قال له الطبيب إن الحمى التي أصيب بها سببها مجرد عدوى إنفلونزا عادية وأعاده إلى المنزل. لكن في غضون أيام ساءت حالته ليُنقل إلى مستشفى الحميات. لكن ذلك كان بعد فوات الأوان. وكان الفيروس قد تفشى بين أفراد العائلة.
ظلت تقرأ القرآن طوال الطريق إلى المشفى
أصيبت غالية بعدها بالحمى وعانت صعوبة في التنفس. وفي 4 أبريل/نيسان، نقلها أحد جيرانها، عاطف غنيم، إلى المستشفى بسيارته. يقول عاطف إنها أخذت طوال الطريق تدعو وتقرأ القرآن "كما لو أنها كانت تدرك أن هذه هي النهاية".
بمجرد ظهور نتائج الاختبار الخاصة بها، أمر الأطباء بنقلها إلى الحجر الصحي. لكنها لم تبلغه أبداً، فخلال الساعات الأولى من يوم 6 أبريل/نيسان، تُوفيت غالية في سيارة الإسعاف على الطريق.
وعندما عاد بها اثنان من العاملين الصحيين واثنان من أحفادها لدفنها، وجدوا مجموعة من سكان بهتيم يسدون مدخل المقبرة، رافضين دفنها فيها. يقول حفيدها: "كانوا ينتظروننا. قالوا لنا: (لن تدفنوا أحداً هنا. أتريدون أن تنقلون إلينا المرض؟!)".
اضطر أحفادها إلى أخذها إلى قرية أجدادها، كفر كلا الباب، في منطقة الدلتا. وهناك، أيضاً، حاول السكان في البداية منع الدفن. ليظل جثمانها في سيارة الإسعاف لأكثر من 15 ساعة حتى تدخلت الشرطة وتمكنوا في النهاية من دفنها.
ولداها يلحقان بها
في اليوم التالي، تُوفي ابنها عبدالفتاح، وأعقبه فيما بعد ابنها الأكبر هشام، الذي كان يبلغ من العمر 54 سنة. دفنوا في مقابر الصدقة دون إشارة إليهم. أصيب ما لا يقل عن 45 فرداً من أفراد الأسرة. ياسمين، شقيقة الحفيد ناصر البالغة من العمر 21 عاماً، كانت حاملاً بطفلها الأول عندما أصيبت بالعدوى، لتنجب بعدها وهي في الحجر الصحي. أطلقت الأسرة على الطفل اسم "يامن"، لكنهم لقبوه بـ"كورونا".
يقول ناصر: "عائلتنا تخوض حرباً مع فيروس كورونا. هذا اختبار، اختبار من الله لنا". بالعودة إلى زقاق الحاجة غالية عبدالوهاب، بقيت الذكرى المؤلمة، أن شخصاً ما منع دفن المرأة التي لطالما عرفوها جميعاً بكرمها. تقول جارتها سالي أحمد: بمجرد أن يخرج أفراد الأسرة من الحجر الصحي يريد الجيران الاعتذار إليهم والقيام بالواجب الذي لم يؤدوه تجاههم وأن يمنحوا جدتهم الوداع الذي تستحقه.
وأضافت الجارة: "سنقيم لها العزاء الذي كانت تستحقه، ونستقبلهم أحسن استقبال".