في أول خطوة له بعد هزائمه المدوية في المنطقة الغربية بليبيا، أعلن اللواء المتقاعد خليفة حفتر تنصيب نفسه حاكماً على البلاد، وإسقاط الاتفاق السياسي، ما يمثل انقلاباً خامساً له، لكن المتضرر الأكبر هذه المرة هو مجلس نواب طبرق (شرق)، ورئيسه عقيلة صالح، أكبر داعم سياسي له.
خطاب حفتر، الذي ألقاه الإثنين 27 أبريل/نيسان 2020، لم يأتِ بالجديد، بشأن سعيه المحموم للوصول إلى السلطة بالقوة العسكرية، وبدون انتخابات، مع إضفاء هالة من التفويض الشعبي، عبر تجمعات صاخبة لأنصاره، للتغطية على عدم شعبيته في الكثير من المدن الليبية، خاصة في المنطقة الغربية، ذات الثقل البشري.
ففي 2018، وجه حفتر نفس النداء لأنصاره لتفويضه بحكم البلاد، وهو الأسلوب الذي لجأ إليه في 2020، لرفع معنويات أنصاره بعد هزيمتهم المدوية في صرمان (60 كلم غرب العاصمة طرابلس) وصبراتة (70 كلم غرب طرابلس)، فضلاً عن عدة مدن ومناطق استراتيجية في الساحل الغربي للبلاد.
ولم تقتصر هذه الخسارة على المناطق الثماني الاستراتيجية غرب طرابلس، بل شملت أيضاً تحييد قاعدة الوطية الجوية (140 كلم جنوب غرب طرابلس)، وحصار مدينة ترهونة الاستراتيجية (90 كلم جنوب شرق طرابلس)، ومقتل قادة عملية غرفة سرت الكبرى والعشرات من رجاله في منطقة أبوقرين جنوب مدينة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس).
حفتر يرغب في التخلص من عقيلة صالح
اللافت أن خطاب حفتر، الذي ألقاه الخميس الماضي، جاء مباشرة عقب كلمة عقيلة صالح، رئيس مجلس نواب طبرق التابع له، والذي تضمن مقترحاً لحل سلمي، مناقض لما طالب به جنرال الشرق.
فعقيلة، الذي لم يعُد يحضر اجتماعاته سوى نحو خُمس النواب من إجمالي 200، اقترح إعادة تشكيل مجلس رئاسي من 3 أعضاء بدل 9، بحيث يختار كل إقليم ممثله في المجلس بالتوافق أو الانتخاب، وتحت إشراف أممي.
وهذا ما يتناقض مع خطاب حفتر الداعي إلى إسقاط الاتفاق السياسي برمته، وعلى رأسه المجلس الرئاسي المنبثق عنه.
كما وقع عقيلة في تناقض آخر، وهو دعوته للتمديد لمجلس النواب، المقسم حالياً بين طرابلس وطبرق، دون الإشارة إلى المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري) برئاسة خالد المشري.
فمعلوم أن الإعلان الدستوري حدد ولاية مجلس النواب بعام واحد غير قابلة للتجديد، تنتهي في 2015، لكن الاتفاق السياسي الموقع في نفس العام وافق على تمديد ولايته، مع استحداث المجلس الأعلى للدولة، كغرفة ثانية للبرلمان، بالإضافة إلى مجلس رئاسي كسلطة تنفيذية، مما يعني أن مجلس النواب يستمد شرعيته فقط من الاتفاق السياسي، وإذا سقط هذا الاتفاق، كما يطالب حفتر، فلا شرعية لمجلس النواب ولا لعقيلة صالح.
مؤسسة عسكرية بثلاثة رؤوس مدنية
يقترح عقيلة ألا يكون رئيس الحكومة من نفس إقليم رئيس المجلس الرئاسي، لكنه يقع في تناقض آخر حينما يمنح القوات المسلحة سلطة ترشيح وزير الدفاع، وهو ما يتناقض مع مفهوم الدولة المدنية، التي تخضع فيها المؤسسة العسكرية لسلطة مدنية، لا أن تكون لها استقلاليتها عن مؤسسات البلاد الدستورية.
ويبدو أن عقيلة حاول مغازلة حفتر بهذا المقترح مقابل إبقائه في منصب رئيس مجلس النواب ولو بصفة صورية.
التنازل الوحيد الذي قدمه عقيلة لخصومه في حكومة الوفاق هو الموافقة على أن تكون القوات المسلحة تحت سلطة مدنية، لكنه يشترط أن يتولى الأعضاء الثلاثة للمجلس الرئاسي مجتمعين مهام القائد الأعلى للقوات.
وهذه النقطة لطالما كانت محل رفض من حفتر، الذي لا يريد للجيش أن يخضع لسلطة مدنية، لكن مقترح عقيلة يهدف بالأساس إلى إضعاف سلطة رئيس المجلس الرئاسي على الجيش، وفسح المجال للصراع بين أعضائه، مما يعطي للمؤسسة العسكرية الفرصة للمناورة والتغول، إذ لا يعقل أن يقود سفينة واحدة أكثر من رُبان.
عسكري يعد بدولة مدنية!
لكن حفتر رد بسرعة دون أن يُعير أي اهتمام أو إشارة لمقترح عقيلة، ووجه خطابه مباشرة إلى الشعب يدعوه فيه إلى إسقاط الاتفاق السياسي (الذي يستمد منه مجلس النواب شرعيته).
ودعا أيضاً لتفويض المؤسسة التي يرونها مناسبة لقيادة المرحلة المقبلة، في إشارة إلى المؤسسة العسكرية التي تتجسد وفق رؤيته في "شخصه"، على حد قول الملك الفرنسي لويس الرابع عشر "الدولة هي أنا".
ويتحدث حفتر عن إعلان دستوري يمهد لبناء دولة مدنية، دون أن يوضح معالمه، والأسس التي تبنى بها الدولة المدنية على يد المؤسسة العسكرية، وهو ما يذكرنا بتجارب دول عربية مثل مصر، التي رُفع فيها شعار الدولة المدنية لتكريس حكم العسكر، وهذه من المفارقات العجيبة.
انتظروا إعلان الاستسلام فنصب نفسه عليهم حاكماً
على الطرف الآخر، اعتبر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق خطوة حفتر متوقعة، ليغطي بها على الهزيمة التي لحقت بميليشياته، واستغل فرصة انقلاب حفتر على عقيلة صالح ونواب طبرق، بدعوتهم للالتحاق بزملائهم في طرابلس وبدء حوار شامل.
وعلى وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، الموالية لحكومة الوفاق، اعتبر خطاب حفتر لا حدث، وتكراراً لدعوته السابقة في 2018، لتفويضه لحكم البلاد، وجاء بالتزامن مع هزائمه في غرب البلاد.
وبحسب بعض الناشطين، فإن حفتر بدل أن يلقي خطاب الاستسلام، أو يقدم تنازلات بعد تغير موازين القوى على أرض المعركة، راح يتحدث عن تفويضه لحكم البلاد!
كلمة عقيلة صالح هي الأخرى تم تجاهلها داخلياً وخارجياً، خاصة أن داعمه الرئيسي ناقضها، مما أفقدها الجدية والقابلية للتنفيذ، أو حتى طرحها للنقاش، لأن رئيس مجلس نواب طبرق أصبح كالغريق الذي لا يملك سوى قشة الشرعية الدولية للتمسك بها.
هل يُصلح خطاب التفويض ما أفسدته الهزائم؟
حفتر مازال يؤمن بالحل العسكري، رغم خسائره الفادحة، خاصة بعد فقدانه السيطرة على سماء المعركة، ما أحبط معنويات أنصاره وميليشياته، ووصول بعضهم إلى قناعة أنهم خسروا الحرب، وأن مواصلة المعارك لا تعني سوى شيء واحد.. مزيد من الضحايا دون طائل.
ولذلك، فإن حركة حفتر الأخيرة ليست سوى مناورة لتجاوز مرحلة الإحباط واليأس التي يعاني منها معسكره.
لذلك جاء التخلص من عقيلة صالح، الذي عين حفتر ذات يوم قائداً للجيش، في إطار امتصاص إحباط أنصاره، قبل أن يطاله غضبهم، لكن رئيس برلمان طبرق بإمكانه التحالف مع حكومة الوفاق، وسحب البساط من تحت أرجل حفتر، خاصة أن له كلمة مسموعة لدى قبيلة العبيدات، كبرى قبائل الشرق.