"ده من رابع المستحيلات"
نسمع هذه المقولة كثيراً، للدلالة على صعوبة حدوث شيء ما، الغول والعنقاء والخل الوفي؛ يقول العرب إنهم المستحيلات الثلاثة. الآن نتحدث عن رابعها الذي لا يحدث إلا على فترات من الزمن وبصعوبة كبيرة. في مصر تستطيع صعود الهرم الأكبر في غفلة من رجال الأمن، وربما تتمكن من الوصول في موعدك رغم زحام صلاح سالم الخانق. لكن من رابع المستحيلات أن تصل إلى حالة الإبداع، عزيزي لا تسئ الظن بي، أعلم أنك موهوب، في شيء ما على الأقل، لكن مصر لا تعلم، وكما تعلم أنت في مصر، أم الدنيا، أمك وأمي، هتعلي صوتك على أمك ولا إيه؟
هل سندفع جميعاً خطأ أب مصري؟
"مكنتش عايزة أدخل علمي، كنت عايزة ادخل أدبي، فدخلت علمي غصب عني ودخلت طب غصب عني، لكن بعد 21 سنة من ممارسة ودراسة الطب قررت أدرس إدارة أعمال"
الحديث لوزيرة الصحة المصرية، التي تعتلي أكبر منصب في منظومة الصحة بمصر، رغم أنها أجبرت على هذا المجال برمته، حسب وصفها. ربما ذلك يفسر -جزئياً- التعامل السيئ للوزارة مع انتشار وباء كورونا داخل مصر، خاصة مع توالي إعلان الدول المختلفة عن اكتشاف حالات مصابة قادمة من مصر.
فهل ستدفع مصر ضريبة إجبار الدكتورة هالة زايد على دخول كلية الطب في شبابها؟
قتل الإبداع يقتل أحياناً
في إحدى ليالي عام 1908 لم يتمكن شاب موهوب من النوم، بقي يتخيل كيف ستسير الأمور صباح الغد، يحلم أن يصل فنه ورسمه للعالم، في الصباح ارتدى أفضل ملابسه واستجمع كل ما لديه، عيناه تلمعان من السعادة والترقب، وصل أكاديمية الفنون، وبدأ الاختبار كي يلتحق بها، يمسك الفرشاة ويرسم ويعبر عن نفسه، ينتهي الاختبار، لسوء حظنا أخبروه في النهاية أن اللون الأزرق يطغى على لوحاته، وأنه غير مرحب به في الأكاديمية. يحزن في صمت ولسان حاله يقول: "سأذهب وأحرق العالم".. لم يفهموا نظراته الغاضبة، ولم يمنحوه فرصة أخرى ليعبر عن إبداعه. بعد قرابة أربعين عاماً، ساهم الفنان الشاب في مقتل أكثر من 60 مليون شخص في الحرب العالمية الثانية، كان أدولف هتلر فقط يسعى للرسم على اللوحات، لكنه في النهاية رسم العالم نفسه من جديد.. وفي مصر كم لدينا من موهوبين أجبروا على السير في طريق مختلف؟
أسطورة "ده عشان مصلحتك يا بني"
بسبب صعوبة الأحوال المعيشية، وتقلبات الزمن، يعتقد الآباء أنهم أصحاب القرار ويحق لهم رسم مستقبل أبنائهم، بحكم أن هؤلاء الشباب صغار السن قليلو الخبرة، ويجب الاطمئنان على مستقبلهم، ربما حتى يصل الابن إلى سن الخمسين، حينها يمكنه تقرير مصيره بنفسه.
عندما يتمتع الشاب بموهبة أو شغف لعلم ما، ويرى أن حياته كلها يجب أن تنصب تجاههم، حتى يحقق أحلامه ويشعر بالسعادة والرضا عن نفسه. ولنفترض شاب وقع في غرام التاريخ، وعقد العزم على الالتحاق بإحدى كليات الآداب، للتعمق في دراسة تاريخ الأمم والحضارات، بينما الأب يريده أن يلتحق بكلية الهندسة، حتى يصبح "فخر العرب" بالعائلة، تتعارض الآراء، ينتصر الآباء، بحكم السلطة النفسية والمادية والخبرة، فيدخل محب التاريخ كلية الهندسة. ويلتحق آخر عاشق للعلوم والفلك بكلية التجارة لأنه أخفق بإحدى الاختبارات، أو لم يتذكر في أي دولة تنتشر حشائش السافانا، فقد تركيزه وضاعت منه عدة درجات، فضاعت كل أحلامه وخططه للحياة بسعادة، ويرضى من الحياة بما تعطيه له صاغراً.
للأمانة أخبرته مصر من قبل، أن حشائش السافانا تنتشر بشكل أكبر شمال وجنوب خط الاستواء، لكنها أبداً لم تقل له الفائدة من معرفة تلك المعلومة.
ماسلو في مصر
طرح "ماسلو" هرمه الشهير للاحتياجات الإنسانية، لأبناء أوروبا والدول المتقدمة، حيث يتحدث فيه عن هرم قاعدته الاحتياجات الفسيولوجية وينتهي بالحاجة لتحقيق الذات، مروراً بالحاجة للأمان والتقدير وغيرها.
شكراً سيد ماسلو على هرمك الجميل، لكن في مصر نحتاج منك طرحاً آخر لاحتياجاتنا الواقعية، حسب ما ينص عليه الواقع والحاكم.
ما رأيك أن تجعل هرمنا الوهمي، عبارة عن "مصطبة" أو "قعدة عربي"، حيث لا حاجة لهرم مدرج، فقط نحتاج قاعدة الهرم، واكتب بها، قوت يومنا و "قسط الجمعية" من أجل الزواج السعيد، وفوز فريقنا المفضل على الغريم، والعودة بسلام آخر اليوم للديار.
اندهشت الآن سيد ماسلو! صدقني، لا حاجة لنا في بقية هرمك، سنبقى أبد الدهر في القاعدة ولن نصعد خطوة نحو الأعلى، كما حدث مع أجيال كثيرة، سبقتنا وأخرتنا، وإن حدث غير ذلك سأخبرك لاحقاً.
في أوروبا وكل مكان يحترم الإنسان، تتوفر الحاجات الأساسية للحياة، فتتهيأ البيئة الصالحة للإبداع، بينما لدينا الأمر مختلف، الأساسيات نفسها غير متوفرة، وحسب ما يرى حكامنا، فلا ضير أن يظل الشاب نصف عمره يحاول أن يوفرها، الحكام يعلمون أن توفيرها، يوفر مناخاً للتفكير والتعبير والإبداع، وكل هذا يحتاج الحرية، والحرية سيد ماسلو لديكم في أوروبا والدول المتقدمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]