وبعيداً عن الشكليات، فقد جاءت الزيارة ناجحة إلى حد بعيد للطرفين وإن كانت تركيا الرابح الأكبر.
- أولاً بنظرة صغيرة على مخرجات اللقاء الذي جاء في المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيسين بالإضافة إلى وزيري خارجية بلادهما نجد أن بوتين بدأ كلمته بتقديم التعازي للشعب التركي في مقتل الجنود الأتراك في إدلب، وهي بمثابة اعتذار عن الخطأ الروسي. الخطأ الذي أوضحه وزير الخارجية وعاد ليكرره الرئيس بنفسه، مع تحميل النظام السوري تبعات كل ما جرى. وهنا نقف عند المحددات والدوافع التي يتحرك في إطارها النظام، إذ يخطئ مَن يرى أن روسيا تسيطر بالكامل على القرار في دمشق. فالإيراني المتواجد في أروقة قصر الشعب بدمشق منذ زمن له حصة في ذلك القرار، وهو ما جعل لبشار الأسد مساحة مناورة، وهي المساحة التي جعلت قواته تضرب نقطة المراقبة التركية في إدلب وتفتح باب القصف المتبادل، ومن ثم فإن روسيا التي سمحت لتركيا بتكبيد النظام ما يقارب الألف عنصر سواء من الجيش أو الميليشيات الموالية، كان لسحب تلك المساحة التي تمتلكها طهران في القرار السوري، ترجم ذلك في إعلان وزارة الدفاع التركية في ليلة البدء في وقف إطلاق النار عن مقتل 21 من أفراد الجيش السوري وتدمير مدفعين وقاذفتين للصواريخ، وذلك رداً على مقتل جنديين تركيين في إدلب، وهو ما يفتح الباب أمام ضوء أخضر روسي لتهذيب دمشق.
- ثانياً تأكيد الرئيسين على وحدة الأراضي السورية معناه الذهاب إلى الحل السياسي والتأكيد على أن ذلك الحل سيكون بالأساس بيد كل من أنقرة وموسكو، وأن الوقت كفيل بترتيب الأوراق، حيث التفاهمات على الأمور العالقة مع الوضع في الاعتبار، رغبات كل من إيران وأمريكا ونصيب أوروبا من الحل النهائي، سواء من ناحية النفوذ، أو كعكة إعادة الإعمار. وهو الحل الذي تتبناه الأمم المتحدة وسيجد تأييداً من أعضاء الجمعية العامة في الأمم المتحدة، وهو أهم عنصر لتمريره بالنسبة للرئيسين المجتمعين في موسكو، وهو ما عرقلته أمريكا في مجلس الأمن في جلسته الأخيرة منذ أيام، وسنعود لذلك في سياق التحليل.
- ثالثاً فتح ممر آمن لوصول المساعدات لأهالي إدلب انتصار آخر لتركيا موجه بالأساس للداخل الذي يموج بالقلق من موجة نزوح جديدة ستكون الأكبر والأخطر وستفاقم الأمور اقتصادياً واجتماعياً وتؤثر على الحزب الحاكم الذي تضغط عليه المعارضة بهذه الورقة. فلا هي تقبل بالحرب في سوريا لمنع وصول النازحين، ولا هي ستقبل بوصول النازحين إن هم هربوا باتجاه تركيا، المخرج الوحيد لهم من القتل، لذا نجد أن الرئيس التركي في كلمته بالمؤتمر الصحفي بعد الاجتماع قال: "لن نقبل أن يلوي ذراعنا أحد وسنعمل على حماية المدنيين عبر نقاط المراقبة، فضرب المدنيين يهدف إلى نزوحهم نحو تركيا لحشرنا في الزاوية". وتأكيداً على ذلك ومخاطباً الداخل، لاسيما بعد جلسة البرلمان التركي التي شهدت تشابكاً بالأيدي بين المعارضة والحزب الحاكم بخصوص النازحين، قال الرئيس أردوغان: "سنعمل على إعادة النازحين إلى منازلهم التي نزحوا منها خلال الأيام السابقة"، لذا فإن ترتيب تلك الورقة سيرتب أوضاعاً كثيرة في الداخل التركي ويرفع كثيراً من الضغوط من على كاهل الإدارة التركية.
- رابعاً استطاعت تركيا وروسيا مشتركتان نزع فتيل المواجهة المباشرة بينهما في سوريا، وترسيخ علاقة مقبولة لكنها برأيي "حذرة" بين البلدين. وهو ما عبّر عنه الرئيس أردوغان أثناء عودته من موسكو للصحفيين بقوله: "علاقاتنا مع روسيا لا يمكن تشبيهها بشيء آخر، هناك خطوات مشتركة لنا في الصناعات الدفاعية، والطاقة النووية، وخط السيل التركي، والسياحة، نعيش اليوم مرحلة التخطيط للتعاون مع دولة ثالثة، لكن القطط السوداء تتدخل، وعندما سأله أحد الصحفيين: أتقصد إسرائيل؟ فأجاب الرئيس: لا.. هي أضعف من ذلك". وهنا يمكن أن نقول إن هناك سبباً خامساً للقول إن اللقاء بين أردوغان وبوتين كان ناجحاً.
- خامساً استطاع أردوغان إعادة تصدير أزمته التي تم افتعالها بقصف إدلب ودفع النازحين باتجاه تركيا إلى كل من روسيا وأمريكا وأوروبا والنظام ومن ثم إيران. وهو ما ذكرناه بالنسبة لأمريكا ورفضها لتمرير القرار الاممي بشأن إدلب، لقد شعرت أمريكا بأنها لم تحقق المطلوب، لاسيما بعد تصريحات أردوغان بشأن علاقته مع روسيا، ومن جهته لم يمكّن أردوغان أمريكا من تركيا وإعادتها إلى بيت الطاعة الأمريكي، ولا يزال يلحّ على شراء منظومة الدفاع الجوي الأمريكي (باتريوت) مع عدم تنازله عن منظومة الدفاع الجوي الروسية الأكثر تطوراً (إس 400). ومن ناحية أوروبا، فإن فتح الحدود التركية مع كل من اليونان وبلغاريا صدّر أزمة كبيرة للغرب جعلتهم يساندون تركيا في موقفها مع روسيا، وهو ما عضض من موقف تركيا قبل اجتماعها في موسكو، وجعل الاتحاد الأوروبي يناشد الأمين العام للأمم المتحدة التدخل لوقف الأعمال العدائية للنظام وروسيا ضد المدنيين في إدلب، كما أن تركيا استطاعت أن تصدر أزمة جديدة للنظام من خلال تكبيده والميليشيات الموالية له خسائر كبيرة في العناصر والمعدات، يصبّ بالنتيجة في صالح المعارضة المسلحة التي تعمل الآن على عدة محاور.
- سادساً وهو الأهم من وجهة نظري هو تأكيد الرئيسين على محاربة الإرهاب والتعاون المشترك في ذلك لكن الخلاف المزمن بين كل من تركيا وروسيا كان تسمية تلك الجماعات المصنفة إرهابية. لتركيا تصنيفها ولروسيا تصنيف آخر، اتفاق الطرفين على تصنيف الجماعات الموضوعة على قائمة الأمم المتحدة هو انتصار كبير لتركيا والمعارضة السورية. من وجهة نظري، ذلك أن روسيا كانت تصنف كل المعارضة المسلحة إرهابية، بما في ذلك الجيش الحر الذي تجتمع مع قادته في أستانا وسوتشي، وتركيا تصنف عناصر (بي كا كا) إرهابية ولا تقاتلها روسيا، بل تجد تلك الميليشيا لها ملاذاً آمناً في سوريا وتتمحور بأشكال متعددة منها ميليشيا (يي بي دي)، وهو ما جعل لتركيا حق الطيران والقصف وتحييد عناصرهما.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.