منذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لما يعرف بصفقة القرن، أعلن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس؛ تلميحاً أو تصريحاً، عن سلسلة من الخطوات السياسية والدبلوماسية والأمنية التي تهدف للرد على هذه الخطة. لكن يبدو أن كل هذه الوعود لم تجد طريقها للتنفيذ على أرض الواقع.
فقد هدد عباس أكثر من مرة بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، كما هدد عباس بتعليق العمل باتفاق أوسلو وملحقاته، ولم يتم وعده بزيارة قطاع غزة لأي سبب، أو يوقف عقوباته ضد غزة المفروضة منذ 2017.
التنسيق الأمني ما زال قائماً
أبرز القرارات التي اتخذها عباس، ولم ينفذها، وأبقاها حبراً على ورق، كان إعلانه وقف التنسيق الأمني في مؤتمر القمة العربية بالقاهرة مطلع الأسبوع الجاري. ورغم أن عباس هدد أكثر من مرة بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل؛ لكنه ما زال قائماً؛ والإسرائيليون يشيدون باستمراره رغم كل الوعود والتهديد.
عباس بدا أنه يتراجع عن موقفه من التنسيق الأمني، حين أشار في مؤتمر جمعه بقائد جهاز المخابرات العامة اللواء ماجد فرج وقادة الأجهزة الأمنية بعد عودته من القاهرة، إلى أنه "سيُوقف التنسيق الأمني في حال لم تتراجع الإدارة الأمريكية عن طرح صفقة القرن"، وهو ما يشير إلى عدم وجود قرار نهائي يقضي باستمرارية أو وقف العلاقة الأمنية مع إسرائيل.
وبحسب وسائل الإعلام، فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أرسل رسالة بخط يده إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، هدد فيها بوقف التنسيق الأمني، وتغيير قواعد وأسس التعامل مع إسرائيل بالكامل إذا أقدم على تنفيذ مخطط ضم الأغوار والمستوطنات إلى سيادة إسرائيل.
وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن السلطة الفلسطينية أبلغت إسرائيل أنها لن توقف التنسيق الأمني معها، لكنها ستقلّصه، إلى جانب عدم منع المتظاهرين الفلسطينيين من الوصول إلى نقاط التماس مع الجيش الإسرائيلي، كما كانت تفعل في السابق.
عباس متردِّد
ويبدو أن عباس يدرك جيداً أن الورقة الوحيدة التي يمتلكها لمواجهة إسرائيل هي وقف التنسيق الأمني، لكن إقدامه على هذه الخطوة يعني انتهاء حياته السياسية، كما يعتقد، ولذلك فهو ما زال متعلقاً بما قد تسفر عنه نتائج انتخابات الكنيست في إسرائيل بعد أقل من شهر، ويعول على مجيء حكومة إسرائيلية قد تعيد مشروع التسوية معه، دون أن يتحمل تبعات ونتائج تطبيق القرارات التي أعلن عنها.
كل ذلك يؤكد من جديد تعويل عباس على العامل الخارجي الإسرائيلي والأمريكي، أكثر من الداخلي الفلسطيني.
هاني المصري، مدير المركز الفلسطيني للدراسات وأبحاث السياسات (مسارات)، قال لـ "عربي بوست" إن عباس ما زال متردداً بحسم قراراته، لأنه يعول على عامل الوقت لتغيّر الخارطة السياسية في إسرائيل أو الولايات المتحدة لصالحه عقب انتخاباتهما، أو تغير البيئة الإقليمية من خلال حدث سياسي يتسبب في خلط الأوراق.
وأضاف أن "عباس يخشى من المواجهة مع إسرائيل، فهو يعلم أن تطبيق أي من القرارات التي أعلن عنها سيكلفه ثمناً قد يصل لإنهاء حياته السياسية".
زيارة غزة لم تتم
لم يكن ملف التنسيق الأمني زيارة غزة هو الأول الذي يتنصل منه عباس، فمن خلال تتبع ما أعلن عنه من قرارات وتعهدات في الأسابيع الأخيرة، لم يطبق أياً منها، مما أوجد حالة من عدم الرضا تجاهه سواء من الشارع الفلسطيني أو الفصائل والقوى السياسية.
في خضم تسارع الأحداث على الساحة الفلسطينية منذ إعلان صفقة القرن، يترقب الشارع الفلسطيني والقوى السياسية تحقّق ما أعلنه الرئيس محمود عباس عن زيارة قطاع غزة لبدء مشاوراته مع القوى السياسية للخروج باستراتيجية وطنية لمواجهة "المخطط الأمريكي بتصفية القضية الفلسطينية".
الزيارة التي لم تتم حتى اللحظة رغم مرور 10 أيام على الإعلان عنها تطرح العديد من التساؤلات عن أسباب مسارعة الرئيس لعقد سلسلة اجتماعات مع الأطراف العربية والدولية، دون أن ينهي ترتيب البيت الفلسطيني، وتركه في حالة فراغ، رغم أن الكثيرين يعدونها الخيار الوحيد أمام الفلسطينيين للرد على صفقة القرن.
عبدالإله الأتيرة، عضو المجلس الثوري لحركة فتح، قال لـ "عربي بوست" إن تأجيل الزيارة مرتبط بتصاعد وتيرة الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، خصوصاً أن فتح وصلتها إشارات بأن وفد حماس ليس جاهزاً بعد للقاء الرئيس في غزة، "خشية أن يؤدي ذلك لتصفيتهم من قِبَل الجيش الإسرائيلي الذي يترصد لصيد هدف ثمين في غزة"، على حد تعبيره.
من جانبه، قال عبداللطيف القانوع، المتحدث باسم حماس، لـ "عربي بوست" إن موقف الحركة من الزيارة لم يتغير، وهي على أتم الاستعداد والجهوزية للقاء وفد فتح في غزة، لما لهذه الزيارة من آمال عريضة بطيّ صفحة الانقسام، وبدء مرحلة جديدة عنوانها الوحدة الوطنية لمواجهة صفقة القرن، على حد تعبيره.
مصادر صحفية نقلت عن أوساط فتحاوية أن زيارة عباس لغزة تأجلت بسبب الخلاف حول برنامجها الذي يركز على الزيارات واللقاءات، لكن فتح تتخوف من عدم توفر بُعد جماهيري وشعبي للزيارة، لأنها ترغب بإظهار زيارة عباس وسط احتضان جماهيري مساند له في غزة.
تقوية حماس.. ومخاوف عباس
عبدالجواد صالح، عضو اللجنة التنفيذية السابق لمنظمة التحرير وعضو المجلس المركزي الحالي، قال لـ "عربي بوست" إن عباس يرى أن الظروف الداخلية والمتمثلة في بقاء الانقسام مع حماس "تصب في مصلحته، انطلاقاً من قناعاته بأن التقدم في المصالحة يعني تقوية حماس، التي يعتبرها خصمه الأول".
وأوضح أن "المصالحة تعني تحمّل السلطة الفلسطينية للأعباء المالية لقطاع غزة".
وأضاف كما أن عباس يتخوف من أن تسفر المصالحة عن تقوية حماس لجناحها العسكري في الضفة الغربية، من خلال استغلال حالة الضعف التي تعيشها السلطة الفلسطينية، وفي هذه الحالة تخشى السلطة ورئيسها أن تفرض حماس سيطرتها على الضفة كما حصل في غزة".
لا وقف لاتفاقات أوسلو
كما هدد عباس في وقت سابق بتعليق العمل باتفاق أوسلو وملحقاته السياسية والاقتصادية.
بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نشر بنود خطته للسلام والمعروفة بصفقة القرن، كان رد الفعل الفلسطيني الأقوى هو ما صدر عن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، حسين الشيخ، بقوله إن "السلطة الفلسطينية أبلغت إسرائيل بأنها لم تعد ملتزمة بالاتفاقيات الثنائية، وأنها في حل من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية مع الجانب الإسرائيلي المترتبة على اتفاق أوسلو".
تيسير نصر الله عضو المجلس الثوري لحركة فتح، قال لـ "عربي بوست" إن القيادة الفلسطينية لم تعد ترى في اتفاق أوسلو مرجعية لتنظيم العلاقة مع إسرائيل، نظراً لعدم التزامها بأي من بنوده.
لكن رغم هذا، لم تتم ترجمة هذا التهديد عملياً؛ بل إن عباس أعلن بصورة مفاجئة بعد إعلان الصفقة أن "اتفاق أوسلو إنجاز فلسطيني"، رغم الانتقادات الموجهة ضده.
حصار غزة ما زال مستمراً
أكثر من ذلك؛ توقع الفلسطينيون أن يوقف عباس عقوباته ضد غزة المفروضة منذ 2017؛ وتسببت بأوضاع اقتصادية كارثية.
لكن عباس فاقم من هذه العقوبات بخصومات مالية كبيرة فوجئ بها موظفو السلطة الفلسطينية في غزة حين تسلموا رواتب شهر يناير/كانون الثاني 2020.
كما أعلن رئيس السلطة الفلسطينية سابقاً عن إجراء انتخابات عامة من منصة الأمم المتحدة في 27 سبتمبر/أيلول، لكنه حتى اللحظة لم يصدر مرسوماً رئاسياً بذلك.
شكوك حول جدية عباس في مواجهة صفقة القرن
منذ إعلان الصفقة ظهرت حماس مؤيدة لعباس بقراراته التي أعلنها، فسارع إسماعيل هنية رئيس مكتبها السياسي للاتصال به، دعاه لعقد لقاء وطني بحضور كافة الفصائل، وأشاد زعيمها السابق خالد مشعل بمواقف عباس من الصفقة، ودعاه لترجمة أقواله إلى أفعال لمواجهتها.
رغم هذه المواقف المؤيدة لعباس من الصفقة، لكنْ تلكؤه بحسم موقفه من زيارة غزة وغيرها، يضع شكوكاً حول جديته في مواجهة الصفقة، ورغبته بإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني الداخلي، خصوصاً أن حماس دعته للاجتماع في القاهرة، إذا كانت ظروف الأراضي الفلسطينية غير مستقرة.
وأوضح عبدالإله الأتيرة، عضو المجلس الثوري لحركة فتح، في هذا السياق، عدم اعتراض فتح على زيارة القاهرة لمقابلة وفد حماس، "لكن قبل ذلك يجب أن نراعي الموقف الذي تمر به القضية الفلسطينية، ونقدر الضغوط التي يتعرض لها عباس من الخارج"، على حد وصفه.
طلال أبو ظريفة، عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية، قال لـ "عربي بوست" إن "اختلاق الأعذار من أي طرف بشأن تأجيل ملف الوحدة الفلسطينية لا يمكن تبريره بأي شكل".
وأضاف أن هنالك حاجة ماسة لعقد اجتماع الفصائل مع عباس بأقرب وقت لتطبيق قرارات المجلس المركزي، الذي نص على إعادة النظر بعلاقات السلطة مع إسرائيل، وسحب الاعتراف منها، ووقف التنسيق الأمني، ثم الذهاب لترتيب البيت الداخلي من خلال الدعوة لانتخابات عامة في الرئاسة والمجلس التشريعي ومنظمة التحرير من أجل أن نعيد الاعتبار للنظام السياسي الفلسطيني.