“جريمة غير معلنة”: من قتل الشاب محمد خليفة في معرض الكتاب؟

عدد القراءات
5,027
عربي بوست
تم النشر: 2020/01/23 الساعة 15:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/23 الساعة 15:39 بتوقيت غرينتش

توفي، منذ قليل، الكاتب الصحفي الشاب محمد حسن خليفة، أثناء تجوله في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2020.

قال الكاتب أحمد عايد إنَّ "خليفة" سقط مغشياً عليه أثناء شراء الكتب بالمعرض، وأسرعت إدارة المعرض لإسعافه، لكنه تُوفي في "المستشفى الجوي" فور وصوله، ولم يكشف الأطباء عن أسباب الوفاة حتى الآن. والكاتب محمد حسن خليفة صدر له هذا العام بمعرض الكتاب مجموعة قصصية بعنوان "إعلان عن قلب وحيد"، وكان يكتب مقالات في عدة صحف عربية في الثقافة والفن والأدب والشأن المصري.

وعن تفاصيل وملابسات الوفاة قالت الكاتبة آية طنطاوي عبر صفحتها على الفيسبوك، وأنا هنا أعرّب ما قالت: 

"أنا حقاً غاضبة. كان الازدحام في جناح قصور الثقافة بمعرض الكتاب لا يحتمل ولا يطاق. وفجأة وجدنا أحدهم يسقط مغشياً عليه من فرط الازدحام. ليتبين لنا أنه محمد حسن خليفة. تم الاتصال بالإسعاف وتم نقله إلى مستشفى الدفاع الجوي. لكن الآن عرفنا أن محمد مات.
لو أن عندنا ذرة من إنسانية، لم نكن لنسمح بتنظيم جناح مثل قصور الثقافة أو الهيئة العامة للكتاب بهذا الشكل الفوضوي في تلك المساحة الضيقة وهو مليء بالكتب والأعداد الغفيرة من القراء. لو امتلك المنظمون ذرة إنسانية لما سمحوا بتنظيم الأجنحة بهذه العشوائية وانعدام النظام. 

عبث.. نحيا في عبث. أرجوكم لا تستهتروا بالموضوع ووعّوا الناس والمنظمين. أعرف أن هذا قضاء ربنا، لكن محمد هو الذي دفع الثمن.
الله يرحمك يا محمد يارب". 

في مصر أخرى غير الموجودة حالياً، مصر قد توجد يوماً وقد لا توجد أبداً، سيحاسب أحدهم على هذا الكم المخيف من الإهمال الذي يؤدي إلى "مقتل" بشريّ من لحم ودم. لكن الآن لا ينبغي ولا يمكن لأحدنا أن يصطنع الصدمة والخوف عندما يتلقى خبر وفاة خليفة بهذه الطريقة. تلك هي الحياة في مصر الآن، ويبدو أنها ستبقى هكذا لفترة ليست بالقليلة، فعلى الجميع التوقف عن اصطناع الصدمة وتقبل الأمر الواقع. 

فالإهمال، وانعدام المسؤولية الأخلاقية والسياسية، وغياب الرقابة، واختفاء الإرادة السياسية في رفع قيمة الإنسان والحيوان والطبيعة، بالإضافة إلى النزعة التدميرية والإرادة الشريرة هي الأعمدة التي تقوم عليها الحياة في مصر الآن.

على سبيل المثال لا الحصر، وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وصل عدد حوادث الطرق في مصر خلال عام 2018 إلى 8480 حادثاً، بإجمالي 3.087 قتيلاً و11.803 مصابين. وهذه فقط الأرقام الحكومية المسجلة، ناهيك عن غير المسجلة، والتي لن تقل عن نصف هذه الأرقام المرعبة على أقل تقدير. فهذه التصنيفات والإحصاءات الحكومية مضللة، فعلى سبيل المثال، إذا سقطت سيارة في إحدى ترع الجمهورية بسبب حادث سير وتُوفي قائدها فسيكتب في تقرير الوفاة أن سبب الوفاة هو الغرق، وليس حادث سير. كما قال خبير الطرق أسامة عقيل لشبكة DW الألمانية. 

انعدام وسائل الأمان على الطريق وعدم كفاءة الطرق وتجهيزها لحالات الطوارئ والأخطاء البشرية، مع انعدام كفاءة السائقين هي السبب. وانعدام الرغبة في إصلاح هذه المنظومة هو التعبير الرسمي غير المعلن عن سعادة الدولة والنظام بهذا الموت المستمر. تحضر مصر هنا بغيابها. 

في هذه الحالة، يتجاور الإهمال في تصميم وإنشاء الطرق مع غياب الإرادة في تصحيح وضع الطرق الكارثي، لتعيش الأسر المصرية في مأساة يومية تقليدية. وأعتقد أن هذا الوضع الكارثي للطرق المصرية هو السر وراء دعوة الأمهات لأبنائهم: ربنا يكفيك شر الطريق. وهي دعوة أشك أن تكون موجودة في أي مكان آخر في العالم.

المشكلة تتضاعف عندما تحضر الإرادة السياسية والاجتماعية في مصر، لأنها إرادة شريرة تنتج رغبات تدميرية تخرج في أفعال منحطة. في حالة الحيوانات مثلاً، وبعيداً عن أوضاع حدائق الحيوان المتهالكة في ربوع الجمهورية، لم تسلم كلاب الشوارع من حالة "الركض نحو الموت" الجارية على قدم وساق حالياً، كلاب الشوارع تقتل وتسمم، وهناك محاولات لتصديرها للدول التي تأكلها، بدلاً من أن يتم تطعيمها والاعتناء بها أو وضعها في حدائق مخصصة أو في مزارع، أو في أي مكان يحفظ روحها وجسدها. 

فأصدرت دار الإفتاء المصرية، فتوى تبيح قتل الكلاب الضالة، بشرط تهديدها لأمن المجتمع وسلامة المواطنين، وألا يكون القتل سلوكاً عاماً يتسلط فيه الإنسان على تلك الحيوانات. ومن الذي يحدد إذا ما كانت هذه الكلاب تهدد أمن المجتمع وسلامة المواطنين، إنها دولة تقتل من يفترض أنهم مواطنوها يومياً في الطرق والسجون وخارج إطار القانون. تقتل بسكوتها وكلامها، وبحضورها وغيابها.
تخيل أن برلماناً وكيلة لجنة حقوق الإنسان داخله هي مارغريت عازر، ويرأسه علي عبدالعال، هو الذي يناقش مسألة تتعلق بحقوق الكلاب في مصر. فعندما فكرت مارغريت ثم أعادت التفكير خلصت إلى مقترح لم يأتِ به الأولون ولا الآخرون: أن نصدر الكلاب إلى كوريا الجنوبية لأنهم يأكلونها هنالك.

كما قلنا، تنتج الإرادة المصرية الشريرة القتل والخلاص باعتبارهما الحل الأسهل لكل مشكلة أو مسألة. لا مجال للتفكير والنقاش والجدال، إذ غابت كل أشكال الحيوية العقلية، ولم يتبق سوى الركض نحو الموت.

سنتخلص من الكلاب، وستنتعش الخزينة بحفنة من الأموال، وسيتناول المواطن الكوري وجبة كلاب مصرية شهية. موقف يربح جميع الأطراف. لله درك يا مارغريت.

هذه المقترحات الرسمية تفصح عن حالة من البلادة والعته، ليس لهما مثيل في التاريخ المصري. 

وبنظرة فاحصة، سنرى أن التعامل مع الكلاب الضالة يتشابه للغاية مع تعامل النظام الحاكم مع النشطاء والسياسيين المعارضين له. فتواجه الكلاب تهديد التصدير للخارج حتى تصبح وجبات تأكلها العائلات الصينية، كما يواجه المعارض تهديد الوفاة في المنفى الاضطراري قهراً وكمداً أو خوفاً ورعباً من المستقبل. كما تواجه الكلاب خطر القتل والتسمم على يد وزارة الزراعة، كما يواجه النشطاء والسياسيون تهديد القتل داخل السجون أو خارجها في كل لحظة يعيشونها داخل حدود المحروسة.

والمصيبة أنه لا يوجد أحد في النظام الحاكم أو في أي غرفة داخل دهاليز الدولة المصرية أو في أي حارة أو توكتوك يود تحمل عناء التفكير وطرح أي محتوى حقيقي يمكن النقاش حوله للخروج من هذه الحالة. لا مكان لصوت العقل على الإطلاق، لا مكان سوى للحلول الراديكالية الجذرية العنيفة، الموجهة ضد الحياة والبشر والحضارة.

ولا دليل على ذلك أكثر من أن الطبيعة أيضاً لم تسلم من هذه النزعة التدميرية، فمن أجل إنشاء بعض الكباري والطرق صارت الأشجار هدفاً وعدواً للسلطة، منطقة مصر الجديدة في القاهرة تم تجريفها تماماً من الأشجار بلا أي داعٍ أو سبب منطقي، سوى معاداة الحياة لذاتها، أو ربما معاداة الاختلاف، لأن الأشجار بلونها الأخضر تبعث على الأمل والحياة. فبالتأكيد كان هناك عشرات الحلول الهندسية لتصميم تلك الطرق دون قطع الأشجار. لكن الرغبة التدميرية المشتعلة في صدر مصر، تخلق معاداة وعنفاً معنوياً ومادياً ضد أي مظهر حضاري يحمل بين طياته أي قيمة جمالية أو أخلاقية أو تهذيبية مثل الشجر. وبنزعتها العدمية تقوم مصر الآن بقطع الأشجار وتحويل الشوارع إلى سلة مهملات عمومية، وتحويل المباني من فرصة للإبداع والتعبير عن أي جمال إلى مجرد كتل خرسانية صماء، لا يستشف منها سوى شبهها مع القهر وانعدام الروح. حتى لا يعرف أحدهم يوماً أن هنالك بشراً من لحم ودم لهم أحلام وتطلعات وتصورات وأفكار قد مروا من هنا.

 أشعر أن الحياة قد انتهت في مصر وأن القيامة قد قامت، وأن النظام الحالي يحاكم الجميع سريعاً على أفعالهم ثم يرسلهم إلى الجحيم استناداً إلى مبدأ: السيئة تعم والحسنة تخص.

عقاب جماعي لمصر، كبشر وموقع جيوغرافي وقيمة تاريخية على ما حدث في 25 يناير. المشكلة أن هذا العقاب الجماعي ليس مؤشراً على استعادة السيطرة والإمساك بزمام الأمور أو المبادرة، بل هو دليل على "هوس مرضي" ضرب السلطة بحدث مر عليه 9 سنوات. حُصرت السلطة فيه لأنها لم تجب عن أسئلته ولم تمتلك من الإجابات سوى القهر والعنف بكل أنواعه ونزعاته التدميرية. هذه السلطة ترد الفعل منذ 9 سنوات على فاعلين اختفوا تماماً، وسلب منهم، وسلبوا أنفسهم مبادرة وإرادة الفعل، لكن السلطة ما زالت مستمرة في حربها على أي إرادة أخرى أو أي مظهر لهذه الإرادة، حتى وإن كان كلباً أو شجرة. لتتعطل مصر في هذه المحطة، وتصبح مشلولة، و"محتاجة زقة لاجل النبي".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
حذيفة حمزة
كاتب ومحرر
محرر، وباحث في علم الاجتماع الرياضي
تحميل المزيد