الصداع الذي أصاب نخبنا العربية والإسلامية بعد حادث اغتيال قاسم سليماني وبعد الرد الإيراني على القاعدتين العسكريتين الأمريكيتين في العراق سيستمر، وقد يتفاقم أكثر في حالة مزيد من تصعيد الموقف بين الطرفين الإيراني والأمريكي، الشيء الذي تجلى في حالة الاحتراب الكلامي العنيف على منصات التواصل الاجتماعي بما يوحي بأن الحدث يتجاوز طرفي الصراع، وهو ما يؤكد حجم الارتباط والتشابك بيننا وبين إيران وتلك مسألة بديهية، فالساحة التي اغتيل فيها الرجل ومسرح الأحداث كلها التي تحتك بها إيران مع غيرها تدور رحاها في المنطقة العربية، كما أن شخصية قاسم سليماني هي إحدى أبرز الشخصيات ذات النفوذ القوي في المنطقة التي بصمت على أدوارها في جل الجبهات المشتعلة بما يجعل المعنيين بالتفاعل مع حادثة اغتياله كثراً والذين يختلفون حوله بحسب تموقعهم منه.
اللافت هو طبيعة ذلك التفاعل البدائي، حيث غلب الشق الانفعالي على الموقف الناضج الذي يفترض به أن يرى الصورة كاملة دون أي اجتزاء مخل، حيث سعى البعض لاستثمار اغتيال سليماني من أجل تنزيهه وتنزيه المعسكر الذي ينتمي إليه وإضفاء بعد ملائكي طاهر على كل ممارساته، كذلك طغت على آخرين أساليب التشفي من موته بغض النظر عن من استهدفه ولماذا استهدفه دون غيره من القيادات السياسية والعسكرية في مختلف بلدان المنطقة.
النتيجة أننا نتأرجح بين طرفي نقيض ونكتفي بالفرجة وبالتعليق على ما حدث فقط بعد أن يحدث، وليتنا نحسن قراءة تلك الأحداث المتسارعة، فنحن لا نبث سوى مشاعر متناقضة لا تقدم ولا تؤخر، بل إن أية محاولة للخروج من هذه الدوامة تعرض صاحبها في ظل حدة الاستقطاب إلى التعرض للأحكام المسبقة الجاهزة المريحة.
هذا الاضطراب الذي خلفه الاستهداف الأمريكي الأخير هو امتداد لحالة الحيرة الناجمة عن تيه في الوجهة وفقدان للبوصلة حتى تحولنا إلى مجرد أدوات رخيصة سهلة التوظيف من طرف الكبار سواء بقصد أو بغير قصد. نسجل هنا أن شخص سليماني إشكالي فعلاً ومجمل الدور الإيراني كذلك، فبمقدار ما أسهم الرجل في إسناد المقاومة الفلسطينية في غياب شبه كلي لباقي الفاعلين في المحيط العربي والإسلامي كان تدخله في جبهات أخرى كارثياً مثل تورطه في قمع الثورة السورية ودعمه للميليشيات في العراق وفي مهادنته للقوات الأمريكية هناك وتعاونه معها في عدة محطات.
لا يمكن النظر إذاً للطرف الإيراني بمنظار أخلاقي مثالي ولا يمكن اعتباره طرفاً نزيهاً حريصاً على تجسيد كل الشعارات التي يروجها هذا صحيح، لكن هذا لا يعني أن نتبنى نظرية المؤامرة التي تسطح الوقائع الواضحة على نحو ساذج، فننفي أن هناك صراعاً حقيقياً قائماً بين إيران والقوى الغربية نجم عنه عقوبات اقتصادية منهكة لها وعداء لا لبس فيه من طرفها للكيان الصهيوني.
ربما قد يعذر من يعتقد بهذا الرأي إن كان يتبنى خطاً أشد راديكالية من الموقف الإيراني، لكن المفارقة أن غالبية من يهاجمون "ممانعة" إيران لا يجدون حرجاً في تبرير تطبيع بعض الأنظمة التي يساندونها مع الكيان الصهيوني ولا يرون في نسج علاقات مع الطرف الأمريكي ومع القوى الغربية أية مشكلة حتى لو كانت أيدي تلك الأطراف ملطخة بدماء الأبرياء في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها لكن حجة الدماء تلك لا تستحضر هنا، حيث لا تستفيق إنسانيتهم المرهفة إلا في الملف الفلسطيني حين يحجرون على الفلسطينيين تلقي الدعم الإيراني لمقاومتهم مستخدمين ذات الحجة، مما يجعل من المسألة معاندة للواقع من زاوية طائفية ضيقة الأفق لا أقل ولا أكثر.
المؤكد أن أفعال إيران ليست كلها ممانعة وليست كلها مساومة كذلك، ثمة أبعاد مركبة تتحكم في توجهات النظام الإيراني من البعد المبدئي الذي نشترك معها في جزء منه وتستفيد منه قوى المقاومة الفلسطينية إلى الطائفي والعرقي الذي تضخم حتى تحول إلى أولى أولويات النظام الإيراني والذي يحاول توظيف البعد الأول لصالحه في إطار نزعة الهيمنة التي أصبحت تسيطر على طهران، إلى البعد المصلحي المتمثل في عدم تعريض بلادها لهزات مدمرة. كل هذا حول إيران إلى طرف براغماتي ذي حسابات معقدة. غير أنها ستبقى قادرة على تغطية كل خطاياها وإلباسها لبوس المقاومة مستفيدة من خيارات خصومها الذين تركوا لها الساحة بالكامل بارتماء جلهم نحو المعسكر الصهيوني.
ومع ذلك فإننا لا نثق في إيران ولن نعطيها صكوك غفران على جرائمها بحقنا، لكن مصلحتنا الآنية تكمن في نشوب أي توتر بينها وبين خصومها الغربيين، فأسوأ الفترات التي عشناها معها هي فترات تفاهمها مع القوى الغربية، تماماً كما حدث قبل الثورة الإيرانية زمن الشاه أو إبان الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، وكذا بعد الاتفاق النووي الذي أطلق يدها في المنطقة، فإن استحكم العداء بينها وبين الأمريكان وحلفائهم، فإن ذلك سيؤجل بالضرورة مشاريعها التوسعية لصالح استعادة القواسم المشتركة بيننا.
ما يهمنا في هذا الموضوع برمته هو التخلص من موقع ردود الأفعال بامتلاك رؤية واضحة تمكننا من التعامل مع إيران ومع غيرها انطلاقاً من موقع الندية ومن موقع الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية ونصرة قضيتها المركزية دون الوقوع ضحية دعايتها ودون أن يوظفنا آخرون في تصفية حساباتهم معها عبرنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.