تعتبر الشرق الأوسط من أكثر المناطق تعرضاً للصراعات المسلحة في عصرنا الحديث، وقد تدق طبول حرب جديدة بعد تهديد مجلس الأمن القومي الإيراني بانتقام مؤلم وثقيل يشمل كافة الشرق الأوسط، رداً على مقتل اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وأربعة من ضباطه في غارة جوية أمريكية قرب مطار بغداد الدولي، إثر تصعيد بين الولايات المتحدة والحشد الشعبي العراقي المدعوم إيرانياً، وما تمخض عنه من اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد من قبل أنصار الحشد الشعبي تنديداَ لغارات جوية أمريكية على قواعد كتائب حزب الله العراقي، أحد فصائل الحشد الشعبي، وقد بررت واشنطن غاراتها الجوية كرد على هجمات صاروخية في شمال العراق أودت بحياة متعاقد أمريكي.
وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط حروباً وأزمات مديدة وعديدة منذ عدة عقود، بعضها حروب دارت بين دول عربية ودول غير عربية كالحروب العربية المتتالية ضد إسرائيل والحرب العربية الإيرانية الطويلة التي استمرت ثماني سنوات، لكن بعض هذه الحروب والأزمات قد وقعت بين دول عربية كاحتلال العراق للكويت الذي أدى إلى حرب تحرير الكويت وغزو العراق وتدميرها لاحقاً بحجة امتلاكها أسلحة الدمار الشامل، وما نتج عنها من تفريخ الجماعات الجهادية وانتشارها في الشرق الأوسط، وكذلك الحروب التي أعقبت الثورات العربية في اليمن وليبيا وسوريا.
والغريب هو أن هذه الحروب والأزمات التي كلفت دول الشرق الأوسط أثماناً باهظة يصعب حصرها لم تتمكن في حل المشكلة التي أشعلت لأجلها، فإسرائيل لا تزال قوية رغم الصراعات المسلحة التي نُشِبت ضدها، والنظام الثوري الإسلامي لا يزال قائماً في إيران ولم يتمكن بدوره من الانتصار في حربه الطويلة ضد صدام حسين، وحرب الخليج الثانية وإن حررت الكويت فقد أبقت النظام البعثي الصدامي لأكثر من عشر سنوات لكي تُشعَل حرب أخرى للإطاحة بهذا النظام، وما تمخض عنها من تمزيق العراق وتمكين إيران فيها، عكس ما كان يتصورّه كل عربي ساند غزو العراق، وكذلك الحرب التي تدور في اليمن منذ أكثر من أربع سنوات قد زادت من قوة الحوثيين ورفعت سقف التأييد الشعبي لهذه الحركة الشيعية.
أما ما تتعلق بالثورات العربية مطلع عام 2011 فالثورة الوحيدة التي نجحت فعلاً هي الثورة المتسمة بالسلمية المطلقة واستعمال الحنكية السياسية ألا وهي الثورة التونسية. فالثورات المسلحة في ليبيا وسوريا واليمن لم تنجح ولا تزال هذه الدول في حرب مدمرة.
إن ثبت أن شن الحروب وافتعال الأزمات في منطقة الشرق الأوسط لم ولا تحل المشاكل التي أشعلت لأجلها فلماذا تستعر هذه المنطقة في حروب واحدة تلو الأخرى منذ أكثر من نصف قرن؟
لعل أول ما يتبادر إلى الأذهان للإجابة عن هذا السؤال هي نظرية المؤامرة التي تلقي اللوم على الغير كلياً، وتتلخص في أن هذه المنطقة الغنية بالثروات النفطية والغازية وغيرهما تعيش تحت مؤامرة الدول الغربية العظمى التي تُشعِل الحروب في المنطقة لنهب ثروات هذه الشعوب وتعطيل عجلة تطور هذه الدول. لو سلمنا جدلاً بهذا الطرح البسيط لكان الغرب مسؤولاً عن إشعال الحروب العربية ضد إسرائيل وإيران وكذلك الحروب والأزمات بين الدول العربية، مع أن الواقع يشهد بالخلافات العميقة بين دول المنطقة وما تتبعها من حروب كلامية طاحنة بين وسائل إعلامها فلماذا تُعزَى إلى الغرب حين تتحول إلى صراعات مسلحة؟ أضف إلى ذلك أنه في الحالة الراهنة يشهد الجميع أن الدول الغربية تتجنب الخوض في صراعات مسلحة في الشرق الأوسط لكن دولاً في المنطقة تسعى إلى خلق توتر وصراعات مسلحة فيها.
وأسباب سعي هذه الدول إلى إشعال الحروب في المنطقة كثيرة، من أهمها صرف انتباه مواطنيها عن المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الداخل بخلق عدو خارجي وحروب خارج الحدود لاحتكار مستحقات الشعوب وفرض حالات طوارئ وظروف استثنائية تهدف إلى كبح الحريات وتمرير التعديلات الدستورية التي يستحيل من الشعوب تَقبُّلُها في الحالات العادية. وهذه الاستراتيجية الجهنمية قديمة وحديثة فقد استعملتها دول شرق أوسطية في صراعات كثيرة، كالصراع العربي الإسرائيلي الطويل، لتنويم شعوبها عبر خلق حالة حرب دائمة ضد إسرائيل وتناسي الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الداخل، بل وانتهزت دول أخرى صراعات مسلحة خارج حدودها لتعبئة شبابها وصرف انتباههم عن المشاكل الداخلية كما هو الحال في العراق، حيث تم اغتيال اللواء قاسم سليماني.
وتدخل معظم الأزمات الجارية حالياً في المنطقة ضمن ما يسمى باستراتيجية تنويم الشعوب عبر حروب وأزمات عبثية، وهذه التكتيكات إن آتت أكلها في السابق فلن تنجح في وقتنا الحاضر بسبب التغييرات الجوهرية التي طرأت في شعوب المنطقة التي لم تعد شعوباً بدائية وبدوية منغلقة على نفسها لتُصَدِّقَ الرواية الرسمية للحكومات في حروبها أو يتم تخديرها من قبل علماء السلاطين الذين يقومون بِلَيِّ النصوص الدينية لتحويل حروب تنويم الشعوب إلى جهاد في سبيل الله. فشعوب المنطقة الآن، لاسيما غالبيتها من الشباب، منفتحون على العالم وقد تثقفوا بثقافة عالية، فعشرات الآلاف منهم درسوا في الغرب وهؤلاء يصعب استحمار عقولهم سياسياً ودينياً. أضف إلى ذلك أن الظروف المعيشية في كثير من دول الشرق الأوسط قد تدهورت وانتشرت ظاهرة بطالة خريجي الجامعات بشكل ملحوظ، وبالتالي فلن يتحمل هؤلاء الشباب صرف المليارات في حروب عبثية من قبل حكوماتهم التي لم تقم بحل مشاكلهم المعيشية والأسرية بشكل فعال.
والغريب في الأمر أن الثورات العربية أوائل عام 2011 لم تغير من سلوك الحكومات الداعمة للصراعات المسلحة لتنويم شعوبها، بل أشعلت هذه الدول ثورات مضادة للالتفاف على إرادة الشعوب، في حين أن هذه الدول تشهد ظواهر اجتماعية وشبابية جديدة وخطيرة كالتزايد الملحوظ في عدد معارضيها السياسيين في الخارج، لاسيما من جيل الشباب، وارتفاع نسبة طالبي اللجوء من أبنائها وبناتها، وتزايد نشاطهم السياسي المكثف عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية التي من شأنها أن تسبب عدم الاستقرار في الداخل على المدى البعيد.
فتأجيج الصراعات الطائفية والإقليمية والدولية لاحتكار مستحقات الشعوب في الشرق الأوسط لن ينجح في وقتنا الحاضر، لأن شعوب المنطقة قد تغيرت فلم يعد من الممكن خداعهم بنفس الأسلوب الذي خُدع به أجدادهم وآباؤهم، بل القيام بإصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية حقيقية هو أحسن وسيلة لقيادة هذه الشعوب المثقّفة. فكما يقال: "قد تتمكن من خداع بعض الناس كل الوقت، وقد تتمكن من خداع كل الناس بعض الوقت، لكن لن تتمكن من خداع كل الناس كل الوقت" لاسيما في وقتنا الحالي الذي يشهد عودة الربيع العربي في كل من الجزائر والسودان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.