بعد إعلانهم إعدام 5 متهمين في قضية خاشقجي.. هل نرى قريباً نظاماً سعودياً يكفل جميع الحريات؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/12/25 الساعة 13:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/12/25 الساعة 13:59 بتوقيت غرينتش
الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز

تعود قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي لتتصدر الأخبار بعد إعلان الأحكام الصادرة عن المحكمة الجزائية السعودية والتي تنص بإعدام خمسة متهمين ومعاقبة ثلاثة آخرين بالسجن لمدة 24 عاماً. وقد اختلفت ردود الأفعال بين منصتٍ متفهمٍ للوضع الصعب الذي أحدثه اغتيال خاشقجي للمملكة العربية السعودية، ومستنكرٍ رافضٍ لهذه المحاكمة كتركيا ومنظمات دولية وحقوقية وكذلك صحيفة "واشنطن بوست" التي ترى أن موعد الإعلان عن هذا الحكم جاء قبل انتهاء المدة التي حددها الكونغرس الأمريكي لمدير الاستخبارات الأمريكية لتحديد هوية أي سعودي متورط في مقتل خاشقجي.

وهذا يرجع إلى الأذهان الأهمية التي توليها المملكة للاحتفاظ بعلاقتها الجيدة مع الولايات المتحدة والدول الغربية والتي تضررت كثيراً بعد قضية اغتيال جمال خاشقجي التي أظهرت أنه للمرة الأولى في تاريخ المملكة العربية السعودية يُجمِعُ الدوائر السياسية والاقتصادية والإعلامية الأوروبية والأمريكية ضد السعودية. هذا الإجماع لم يحدث حتى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مع أن 15 من منفذي الهجوم كانوا سعوديين. ما الذي حدث؟ ما الذي دفع الغرب إلى عدم الاكتراث بمصالحها الاقتصادية الكبيرة وانتفض ضد حليفها الاستراتيجي القديم؟ هناك جملة عوامل تفسر هذا الانقلاب المفاجئ ويمكن تلخيصه في خيبة الأمل ونفاد الصبر.                                                                        

قد علق الغرب الغرب آمالاً كبيرة على ولي العهد الجديد وسماه (إم بي إس) محاباةً وتودداً. وقد بدأت هذه الآمال تتحقق فعلاً بعدما أصدرت السلطات السعودية الجديدة، بقيادة إم بي إس، قرارات جوهرية كمنح المرأة حق قيادة السيارة وكبح سطوة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تسمى في الغرب بالشرطة الدينية، وكذلك إيجاد هيئة الترفيه في المملكة وما تلاها من فتح دور السينما والقيام بأنشطة ترفيهية كانت تعد من المنكرات أو المحرمات في الفكر الوهابي المتشدد. وقد تعهّد إم بي إس بإحلال الوسطية واجتثاث جميع أشكال التشدد الديني من المملكة. كل هذه الإجراءات والتصريحات لقيت قبولاً كبيراً في الغرب الذي كان ينظر إلى ولي العهد السعودي كقائد إصلاحي تقدمي.                                                                                           

لكن الحصار المفاجئ لدولة قطر في 5 يونيو/حزيران 2017 وضع الغرب في حيرة كبيرة لأن المملكة العربية، الحليف الاستراتيجي للغرب، هي التي تقود دول الحصار. وقد فضّل الغرب عدم الخوض في هذه الأزمة الخليجية آملاً أن يجد الأشقاء الخليجيون حلاً لهذه المشكلة مع أن الدول الغربية على علم تام بأن الأدلة المقدمة لتبرير الحصار ليست قوية. حتى بعد حصار قطر ما يزال الغرب يعقد آمالاً كبيرة على القيادة السعودية الجديدة لكن لم يتوقع بأن هذا الحصار سيستمر إلى يومنا هذا ولم تُبد دول الحصار، بقيادة السعودية، أية نية لإنهاء هذه الأزمة في منطقة الخليج العربي الذي يحرص الغرب على ضمان أمنها للاحتفاظ بمصالحها الاستراتيجية والاقتصادية.             

 بعد الحيرة على حصار قطر بدأ الغرب يشعر بالصدمة بسبب قرارات داخلية اتخذتها السلطات السعودية الجديدة ومن أهمها إلقاء القبض على الناشطين والناشطات في المملكة وما تبعه مؤخراً من محاكمات قاسية بالإعدام على إصلاحيين سعوديين بارزين كسلمان عودة الذي يمثل التيار الإسلامي المعتدل. وقد شكلت هذه القرارات لاسيما احتجاز ناشطات سعوديات في مجال حقوق المرأة، كلجين الهذلول وإيمان النفجان وعزيزة اليوسف، صدمة كبيرة في الغرب وخيبة أمل في سياسات ولي العهد السعودي الذي أصبح يعامل شعبه بقسوة بالغة وفي الوقت نفسه يُبدِي صورة القائد الشاب الإصلاحي في الغرب. إن المعاملة القاسية للناشطات السعوديات هي أكثر ما دفع الغرب إلى الخروج عن صمتها لما تشكله قضية المرأة من اهتمام بالغ في الرأي العام الغربي. 

ولعل كندا هي أحد الدول التي أخرجت الغرب من صمته عبر وزيرة خارجيتها كريستيا فريلاند والسفارة الكندية في الرياض أوائل أغسطس/آب 2018 منتقدة حملة اعتقالات شملت ناشطات وناشطين سعوديين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة. وكان الرّد السعودي قاسياً جداً، حيث تمثّلت في إجراءات عقابية ضد كندا عن طريق طرد سفيرها في الرياض واستدعاء السفير السعودي في كندا للتشاور، إضافة إلى توقف رحلات الطيران المدني السعودي إلى كندا والتبادل الطلابي والطبي واستيراد القمح الكندي. كانت هذه القرارات السعودية تهدف إلى ضغط الحكومة الكندية لتقديم اعتذار رسمي الأمر الذي رفضه رئيس الوزراء الكندي، كما كانت تهدف إلى ردع الدول الغربية الأخرى عن التعرض لقضايا حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية.

يجدر الإشارة إلى أن هذه الأزمة الدبلوماسية الناشئة من انتقاد سجل حقوق الإنسان في المملكة هي الأزمة الثالثة بين السعودية ودول غربية منذ تولي الملك سلمان الحكم في يناير/كانون الثاني 2015. وقد سبقتها الأزمة السعودية لكل من السويد في مارس/آذار 2015 وألمانيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وقد أدت الأزمتان إلى سحب السفير السعودي والضغط على الدولتين لتقديم اعتذار رسمي وهذا ما قبلته السويد ولم تقم به ألمانيا.                                                                        

وقد أخطأ النظام السعودي حين نظر إلى الدول الغربية كدُول أو كيانات مستقلة بدلاً من منظومة سياسية واحدة لها أهدافها الاستراتيجية وسياساتها الموحدة. وقد اعتبرت أوروبا معاملة السعودية لكل من السويد وألمانيا كإهانة للمجموعة الأوروبية كلها، كما اعتبرت الكثير من دوائر صناعة القرار الأمريكي والأوروبي طرد السفير الكندي من الرياض وما تلاه من تصريحات سعودية حادة ضد كندا كسلوك مرفوض لا سيما من نظام يديره فعلياً ولي عهد كان الغرب ينظر إليه كالقائد الإصلاحي المستنير الذي يقبل النصيحة وحتى النقد من حلفائه الغربيين.                                                                                  

أضف إلى ذلك أن الدول الغربية لاحظت أن ولي العهد السعودي، الذي عقدت عليه آمالاً كبيرة، يقود بلاده باستبدادية مطلقة شطبت كلياً هامش الحرية الضيق الذي كان موجوداً قبل توليه ولاية العهد واتسمت قيادته للبلاد بسلسلة من انتهاكات حرية التعبير، وحرية التجمع وحتى حرية الصمت، التي طالت أكاديميين ونشطاء سلميين وصحفيين. كما لاحظ الغرب ازدياد عدد السعوديين طالبي اللجوء السياسي في الدول الغربية ومعظمهم شباب وشابات، وكذلك استمرار السعودية في حربها في اليمن رغم اعتراض الكثير من الدوائر الحكومية والحقوقية الغربية لهذه الحرب التي تدمر اليمن وشعبها. وفي ظل هذه الظروف غادر الصحفي السعودي الشهير جمال خاشقجي المملكة إلى أمريكا حيث كتب مقالات عدة في صحيفة واشنطن بوست طالباً احترام حرية التعبير وكافة حقوق الإنسان في بلاده.                                                                                                                                                 

وقد نفد صبر الدول الغربية من السياسات الخاطئة للقيادة السعودية الجديدة بعد حادثة الاغتيال البشع لجمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول من قبل فرقة موت مكون من 15 سعودياً. وهذا الحادث المروع لا يُذكّر الغرب أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي نفذها العدد نفسه (15 سعودياً) فقط بل يدل دلالة قاطعة على مدى جسارة فرقة الموت التابعة للاستخبارات السعودية على خرق القانون الدولي واتفاقية فيينا والأعراف الدبلوماسية الذي يؤدي في النهاية إلى انهيار النظام الدولي بكامله.                                                                                                                               

 فاغتيال خاشقجي هو القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث يمثل الحلقة الأخيرة من حلقات حيرة وصدمة وخيبة أمل غربية من قرارات خارجية وداخلية اتخذتها القيادة السعودية الجديدة، كالحصار الجائر على دولة قطر والحرب في اليمن والأزمات الدبلوماسية مع ثلاث دول غربية واحتجاز ناشطات وناشطين سعوديين. لم يؤيد الغرب واحداً من هذه الإجراءات السعودية بل فضّل في البداية عدم التحدث عنها لاعتبارات سياسية واقتصادية واستراتيجية لكن بلغ السيل الزبى حينما قتل جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده فانتفض أوروبا وأمريكا ضد السعودية.                                                              

ينبغي أن تدفع حادثة اغتيال خاشقجي الحكومة السعودية إلى تغيير جوهري في سياساتها الداخلية والخارجية. على الصعيد الداخلي، يجب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والناشطات السعوديات والسماح بعودة المعارضين السعوديين إلى بلادهم وإطلاق الحريات الفردية والسياسية. وعلى المستوى الخارجي، يجب إنهاء حصار قطر والحرب في اليمن فوراً. وهذه التغييرات الأساسية هي ما كان جمال خاشقجي يناضل لأجلها، ولعل أحسن ما يخلّد ذكراه هو إيجاد نظام سعودي يكفل جميع الحريات.                                                                                                                                       

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالعزيز غي
أستاذ في جامعة ولاية بنسلفانيا الأمريكية
كندي الجنسية، حاصل على الليسانس والماجستير والدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة جنيف بسويسرا، وعلى دبلوم عالٍ في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، وشهادة الليسانس في اللغة العربية. عاش 5 سنوات في الشرق الأوسط، و12 سنة في أوروبا، وأكثر من نصف عقد في أمريكا الشمالية. مهتم بحوار الأديان والثقافات والشعوب، وحالياً يعمل أستاذاً لدراسات الأديان واللغة العربية في جامعة ولاية بنسلفانيا وفي كلية نازاريث في أمريكا.
تحميل المزيد