منذ أن ارتمى النظام الإريتري الذي يقوده الديكتاتور أسياس أفورقي في أحضان ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد عام 2016، التاريخ الذي بدأت فيها الإمارات إنشاء قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإريتري، انقلبت علاقات أفورقي الجيّدة مع قطر آنذاك إلى عداءٍ تجسده "حرب بيانات" هجومية تُصدرها وزارة الإعلام الإريترية بعكس الأعراف المتبعة عالمياً، فوزارة الخارجية في أيّ بلدٍ هي التي تدير ملف العلاقات الخارجية.
في ساعةٍ متأخرةٍ من ليلة الأربعاء الماضي، نشرت وزارة الإعلام الإريترية بياناً جديداً يتهم قطر بتنفيذ مخططٍ تخريبي، يشمل التدريب العسكري لعناصر المعارضة المسلحة، وخاصة تنظيم الإخوان، فضلاً عن القيام بأعمال تخريب اقتصادي وتأجيج الدعاية العدائية ضد إريتريا واغتيال قادة بارزين في البلاد. على حد وصف البيان الذي جاء هذه المرة من 10 نقاط.
4 بيانات هجومية في عامين بلا أدلة
البيان الجديد هو الرابع من نوعه في ظرف سنتين وسنتطرق بشيء من التفصيل إلى البيانات الثلاثة السابقة:
1- في مارس/آذار من العام الماضي، أصدرت وزارة الإعلام الإريترية بياناً اتهمت فيه السودان وقطر بإقامة معسكرات لتنفيذ أعمال سياسية وعسكرية ضدها، بقيادة المعارض الإريتري محمد جمعة أبورشيد، كما جاء في البيان أن السفير القطري في الخرطوم راشد النعيمي قام بزيارة تفقدية لمتابعة الأوضاع الأمنية على ولاية كسلا (الحدودية مع إريتريا)، ولمتابعة قوات الدفاع المشترك بين السودان وإثيوبيا التي زعم البيان أن تمويلها يأتي من قطر بإشراف جهاز الأمن السوداني.
2- بعد أقل من شهرين من البيان الأول، أي في مايو/أيار من العام 2018، صدر بيانٌ إريتري جديد تطرّق إلى زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي المنتخب حديثاً في تلك الفترة "آبي أحمد" إلى الخرطوم، حيث زعمت إريتريا أن الجانبين "السوداني والإثيوبي" اتفقا على توفير الدعم اللازم لما أسموه "المقاومة الإريترية" بكل الوسائل التي تمكنها من القيام بالمهام الموكلة إليها، من خلال السماح لها بالتنقل بحرية على طول الحدود المشتركة، وكل ذلك بتمويل قطري حسب مزاعم أسمرة.
3- المرة الثالثة جاءت في أبريل/نيسان الماضي، بعد المصالحة بين النظام الإريتري والحكومة الإثيوبية ولذلك استبعد أفورقي إثيوبيا من قائمة الأعداء، وأبقى على قطر والسودان بينما حلّت تركيا في محل إثيوبيا، فقالت وزارة الإعلام الإريترية حينها، إن "أعمال التخريب التي تمارسها الحكومة التركية، برعاية حزب العدالة والتنمية الحاكم، ضد إريتريا معروفة لدينا". وأضافت الوزارة، "هذه الأعمال العقيمة تُمارس من خلال التمويل القطري وتواطؤ النظام السوداني الذي سمح باستخدام أراضيه لهذه الأهداف الشائنة".
لعلكم الآن تتساءلون عن سبب "حرب البيانات" التي يتكفل نظام أفورقي بشنّها على دول الجوار والإقليم، الواقع أن هذا الرجل منذ اعتلائه السلطة في إريتريا بعد استقلالها من إثيوبيا في مطلع التسعينيات، انقلب من أول يوم على شركاء النضال في جبهة التحرير فزجّ بهم في السجون والمعتقلات، ونصّب نفسه حاكماً أبدياً على إريتريا خلافاً للاتفاق الذي كان يقضي بأن يتولى السلطة لفترة مؤقتة لحين قيام الانتخابات وإقرار الدستور.
حتى يتمكن من البقاء من السلطة بالإجراءات القمعية التي لا مثيل لها، استمرأ أفورقي صناعة "نظرية المؤامرة"، فلابد أن يكون هناك عدوٌ وهميٌّ يتآمر عليه كي يبرر الأوضاع المأساوية في الداخل الإريتري، فقبل المصالحة مع إثيوبيا كانت أديس أبابا العدو الأول لنظامه كل فترة وأخرى يحكي عن هجوم أو مؤامرة إثيوبية، وبعد أن تمّ توقيع اتفاق السلام بين الحكومتين أصبح العدو الافتراضي هو قطر والسودان، وبعد سقوط نظام البشير أصبحت الدوحة هي المتآمر الوحيد حاليّاً كما في البيان الأخير.
أما السبب الثاني فهو اعتقاده بأن الهجوم المستمر كل فترة وأخرى على قطر سيجلب له رضا "الكفيل" الإماراتي، فإذا تتبعنا مسار الرحلات الخارجية لأسياس أفورقي أبراهام الذي يعيش في شبه عزلة دولية، خلال الأعوام الماضية وجدنا أنه يتردد بكثافة على دولة الإمارات دون سواها، وتحديداً على إمارة أبوظبي حيث يأخذ التعليمات من ولي عهدها والحاكم الفعلي للدولة محمد بن زايد، فرئيس النظام الإريتري بمثابة وكيل لابن زايد في منطقة القرن الإفريقي الاستراتيجية.
أوضاع مأساوية في "كوريا الشمالية إفريقيا"
إريتريا أو "إرتريا" كما يسميها ويكتبها أهلها بالعربية و"إرترا" بالتغرينية، ذلك البلد الجميل الذي تتوزّع أراضيه بين المنخفضات والمرتفعات إلى جانب إطلالاته الفريدة على سواحل البحر الأحمر حيث يضم جزراً لا مثيل لها، أصبح في عهد أسياس أفورقي يحمل اسم "كوريا الشمالية إفريقيا" حيث إن الديناصور أفورقي هو الحاكم الأول والأوحد لإريتريا منذ استقلالها مطلع تسعينيات القرن الماضي.
الحلم الوحيد للشعب الإريتري الذي تبقى في الداخل هو الهروب من البلاد بالطرق غير الشرعية، إذ لا يسمح نظام "الهقدف" لفئة الشباب بالسفر علنياً، نظراً لأنه يجبرهم على الخدمة العسكرية الطويلة في الجيش، فلنظام أفورقي تجنيد عسكري لا يتصوره عاقل، إذ يمكن للشاب أو الشابة أن يمضي في الخدمة العسكرية 10 سنوات أو يزيد، قسراً وبلا مقابل، حتى إن السلطات قد تُجند أفراداً تجاوز عمرهم الـ50 والـ60 عاماً، لذلك يضطر الإريتريون إلى الهجرة من جحيم النظام الحاكم والأوضاع الاقتصادية المتردية، فقد جعل أفورقي إريتريا بلداً معزولاً عن دول العالم، هذا بخلاف المعتقلين الذي تمتلئ بهم السجون ويقدّر عددهم بعشرات الآلاف بعضهم معتقل منذ التسعينيات لا أحد يعلم عنهم شيئاً.
وزارة إعلام أفورقي بتعديل خبر عن فعالية إريترية في الدوحة
من التناقضات التي يُعرف بها الديكتاتور أسياس أفورقي، أنه ورغم الاتهامات الخطيرة التي يوجهها لدولة قطر فإنه ما زال يقيم علاقات دبلوماسية كاملة معها.. نظرة صغيرة إلى الموقع الرسمي لوزارة الإعلام الإريترية توضح لنا هذه التناقضات.
فبتاريخ 22 نوفمبر/تشرين الثاني أي قبل 5 أيام فقط من بيان الاتهامات الأخيرة، نشر الموقع الرسمي للوزارة خبراً بعنوان: "اختتام مهرجان الجالية الإريترية في قطر"، واللافت أن وزارة الإعلام قامت بتعديل مضمون الخبر الذي كان في البداية متضمناً الإشارة إلى مشاركة مدير إدارة المراسم في وزارة الخارجية القطرية السفير إبراهيم يوسف فخرو في الحفل، مرفِقة مع الخبر صورة الضيف القطري إلى جانب سفير إريتريا علي إبراهيم أحمد كما في الصورة أدناه.
أما الخبر الجديد المعدل فقد خلا من الإشارة للسيد فخرو نهائياً لا صورته ولا اسمه، وجرى نشره بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني، في حين أن الخبر الأول كان موجوداً حتى صباح الخميس الماضي "يوم البيان الأخير".
أسباب إبقاء أفورقي على علاقاته الدبلوماسية مع قطر ولماذا لم تتخذ الأخيرة إجراءات ضد السفير الإريتري؟
لعلّ البعض يستغرب في إبقاء الرئيس الإريتري علاقاته مع قطر بكامل التمثيل الدبلوماسي "مستوى سفير" رغم الاتهامات الخطيرة التي يكيلها للدوحة كل فترة وأخرى، ورغم تضامنه الواضح مع المحور الإماراتي السعودي في الأزمة الخليجية..
لدينا 3 احتمالات قوية تفسر:
أولها: الرغبة في تحصيل الضرائب من الجالية الإريترية في الدوحة، يقدّر عدد أبناء الجالية الإريترية في قطر بحوالي 17000 شخص، يفرض عليهم النظام الديكتاتوري ضرائب سنوية بقيمة 2% من إجمالي دخل المغترب، هذا بخلاف رسوم إصدار وتجديد الوثائق الهجرية مثل جواز السفر، فإذا قطع نظام الجبهة الشعبية العلاقات مع قطر قد يفقد هذه الموارد الماليّة وهو بحاجة إلى كل قرش بعد أن أفقر البلاد وشرّد أهلها.
ثانياً: يتخوف أفورقي أبراهام من عدم عودة سفيره لدى قطر علي إبراهيم إذا قام باستدعائه إلى أسمرة، فالأخير يحمل لقب "عميد السلك الدبلوماسي" في قطر لأنه أقدم السفراء على الإطلاق في الدولة الخليجية، وتتحدث تسريبات عن أنه ينوي تقديم طلب لجوء سياسي إلى إحدى الدول الغربية كما فعل عدة سفراء سابقين لنظام أفورقي.
ثالثاً: ربما يريد رئيس النظام الإريتري إبقاء "شعرة معاوية" مع قطر عن طريق القناة الدبلوماسية "السفارة" رغم الهجوم المستمر. والدوحة لديها استثمارات في إريتريا تتمثل في منشآت سياحية ضخمة أقامتها شركات قطرية بأرخبيل دهلك الإريتري، وكذلك ربما يبتز أبراهام كفيله الإماراتي بإبقاء العلاقات الدبلوماسية قائمة مع قطر متمثلاً في التمثيل الدبلوماسي الكامل.
أما بخصوص عدم اتخاذ قطر إجراءات عملية في حق إريتريا كطرد السفير مثلاً أو إغلاق سفارتها، فالتاريخ القريب لقطر وربما البعيد أيضاً، لم يسجل حالةً كهذه.. أن تقوم الدوحة بطرد سفيرٍ أو إغلاق سفارة أجنبية.
فالدبلوماسية القطرية تنتهج سياسة هادئة تقوم على حل الخلافات بصورة ودية، وإذا تطلّب الأمر موقفاً حازماً فإنها تتخذ تدابير على شاكلة استدعاء السفير الأجنبي وتسليمه مذكرة احتجاج رسمية كما فعلت من قبل مع السفير الإريتري من قبل في أبريل/نيسان الماضي.
ولا يفوتنا كذلك الإشارة إلى أن السفير الإريتري لدى الدوحة علي إبراهيم أحمد يتمتع بعلاقات شخصية ممتازة مع القيادة القَطَرية، وكثيراً ما يشيد بقطر وأميرها رغم البيانات الهجومية التي تُصدرها بلاده في حق قطر.
عليه، ستبقى علاقات إريتريا متوترةً مع قطر والعلاقات الدبلوماسية كما هي، ما دام أسياس أبراهام على سدة الحكم في أسمرة، إلى أن تتم الإطاحة به كما تمت الإطاحة برفيق دربه ديكتاتور السودان عمر البشير رغم الفارق بين الرجلين في درجة "الديكتاتورية"، وكذلك لا نستبعد أبداً أن ينقلب أفورقي على بن زايد في أي وقت، ويقوم بتحسين العلاقات مع قطر، فهو ليس من أهل المبادئ ولا المواقف الثابتة، فحتى العام 2016 كان يزور الدوحة باستمرار بدلاً عن أبوظبي، حيث كان يطمئن على صحته بإجراء التحاليل الطبية في أحد مستشفيات العاصمة القطرية، ويأخذ رواتب جيشه وحكومته من قطر وفق ما تسرّب إلينا!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.