حينما تخلى الجميع عن مسلمي أمريكا ووقف اليهود بجانبهم

عربي بوست
تم النشر: 2019/11/25 الساعة 14:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/11/25 الساعة 14:13 بتوقيت غرينتش
ولهذه الأسباب المذكورة أقول: أنا مسلم لكن أحترم الشعب اليهودي

بعيداً عن السياسة وعن العلاقات العربية-الإسرائيلية وعن القضية الفلسطينية، فهذه التدوينة تركز بشكل خاص على الظاهرة القديمة والحديثة، المتمثلة في معاداة عدد كبير من المسلمين، على اختلاف أجناسهم وأعراقهم، للشعب اليهودي جملةً وتفصيلاً، ورسمِهم صورة نمطية خاطئة لجميع اليهود وما يتبع ذلك من رَمْيِ أبشع التّهم وأقبح الأوصاف عليهم.

والغريب في الأمر أنّ أكثر من مالوا إلى هذا الحكم القاسي لم يسبق أن احتكّوا بالشعب اليهودي إطلاقاً. فهذه الظاهرة الخطيرة التي تعتمد على تناول قضايا الشعوب الأخرى بكثير من السطحية والتعالي وفرض افتراضات زائفة عنهم، قد راحت ضحيتها شعوب أخرى كالعرب والفرس والترك والتركمان والأفارقة، وغيرهم ممن يعانون رفضاً تاماً من قِبل أناس لا يعرفونهم حق المعرفة، نتيجة تَلَقِّيهم ثقافةً شفهية تقوم أساساً على تصديق ما يقال عن الشعوب الأخرى دون التأكد من صحته، وهذه سوف تكون موضوعات لتدوينات أخرى.

هذا وإنني أقر بحساسية الموضوع الحالي، بسبب الظروف الراهنة في الشرق الأوسط وتَرَسُّخ الموروثات الاجتماعية والثقافية التي غذَّت في الماضي والحاضر فكرةَ رفضِ الشعب اليهودي بأكمله من قِبل كثير من المسلمين، لكنني قررت الكتابة عن هذا الموضوع بعد تجربة طويلة ومباشِرة مع يهودٍ في أوروبا وأمريكا الشمالية (كندا والولايات المتحدة الأمريكية).

إن أول من لفت انتباهي إلى عدم الإقدام على رفض تام ونهائي لمنتسبي الديانة اليهودية، طالبٌ جامعي مسلم عاش في أمريكا مدة طويلة، وقد تعرفت إليه في بداية مرحلة التحصيل العلمي بالشرق الأوسط أوائل التسعينيات الميلادية، حيث كانت خطب صلاة الجمعة تُختم بالدعاء على كل الشعب اليهودي بالهلاك: حيث يُؤَمِّنُ آلاف المصلين على أن يُيَتِّمَ اللهُ أطفالَ اليهود ويُرَمِّل نساءَهم، أو أن يُجمِّد ربُنا الرحمنُ الدمَ في عروق اليهود وأن يرسل إليهم أمراضاً لا شفاء منها وأن يُسكِّن ما تحرَّكَ في أجسامهم ويُحرِّكَ ما سكن منها، أو أن يُزلزل إلهُنا الرحيمُ الأرضَ من تحت أقدامهم وأن يجعل الموتَ أعلى أمانيهم! علماً أن الرسول -صلى عليه وسلم- الذي أُرسِل رحمة للعالمين كان يقوم لجنازة اليهوديّ واليهوديّة حين تمر أمامه، لكننا ندعو في مساجدنا على جميع الأحياء منهم بأخطر أنواع البلايا والمصائب، أضِف إلى ذلك أن الإمام الترمذي روى أنه -صلى عليه وسلم- قال: "ليس المؤمن بالطَّعان ولا اللَّعان ولا الفاحش ولا البذيء"، ثم إن الإسلام  الذي أمر المسلمين بمعاشرة النساء بالمعروف، أجاز زواج المسلم بيهودية، فإذن كيف ندعو على والدَي زوجتنا اليهودية وعلى إخوانها وأخواتها بمثل هذه الأدعية، لمجرد أنهم من أتباع ملة سيدنا موسى عليه السلام!

هذا وقد أوليتُ اهتماماً خاصاً بنصيحة زميل الدراسة، وكففت عن التأمين على هذا الصنف من الدعاء، الذي يدخل فقهيّاً في باب "الاعتداء في الدعاء"، المنهيّ عنه في الشريعة الإسلامية، لأن الله لا يحبه ولا يحب سائله، بدليل أن السميع المجيب لم يستجب لهذه الأدعية وإن دعيت في أقدس الأماكن وأَمَّن عليه آلاف المصلين! وقد أوضح لي الزميل أنه احتكّ عن قرب بالجالية اليهودية في مدينة نيويورك، ولم يلاحظ الأوصاف السيئة التي يوصفون بها في ديار الإسلام، بل أبدى إعجابه بتواضعهم في المأكل والملبس والمسكن رغم ثرائهم الفاحش، وبحرصهم على احترام تعاليم دينهم كالقوانين الغذائية التوراتية (كوشر أو كشروت بالعبرية)، وكالدعاء جماعياً قبيل تناول الطعام والذي لاحظه الأخ حين عُزِم على تناول وجبات العشاء في بيوت زملائه اليهود.

وبعدما عشت أكثر من عشر سنوات بأوروبا ونحو سبع سنوات في أمريكا الشمالية، اكتشفت أن زميلي كان صادقاً في رفضه الصورةَ النّمطية عن الشعب اليهودي. فقد تعرفت عن قرب على كثير منهم، أفراداً وجماعات، في أصعب الظروف التي مر بها المسلمون القاطنون في الغرب، وأعني بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وما تلاها من هجمات إرهابية باسم اﻹسلام في دول أوروبية، وتصاعد تيارات اليمين المتشدد واستهدافهم الأقلية المسلمة في الغرب.

في ظل هذه الأجواء الصعبة وقفت الجالية اليهودية بجانب المسلمين حين انتفض كثير من الغربيين ضد المسلمين ومن ضمنهم القوى الحاقدة على الوجود الاسلامي في الغرب، ومن بينهم أفراد من الجالية الإسلامية الذين انضموا إلى حملة تشويه صورة الإسلام والمسلمين في الغرب، للمنفعة العاجلة وليتِمّ تقبُّلهم في الأوساط الغربية.

وهناك أمثلة كثيرة على معاضدة اليهود ومساندتهم للمسلمين في الغرب، على شكل مبادرات شخصية أدت إلى تشكيل منظمات وجمعيات عديدة تضم مسلمين ويهوداً كمنظمة "الأخوات المسلمات واليهوديات للسلام"، التي تركز على رفض الصورة النمطية التي رُسمت للمرأة المسلمة في الغرب والتي تعاني أكثر من الرجال المسلمين بسبب زيها الإسلامي. كما قامت الجاليات اليهودية بدور بارز في نصرة الأقلية المسلمة ومعاونتها، فبعد انتخاب الرئيس الأمريكي الحالي وشروع إدارته في اتخاذ قرارات ضد رعايا دول ذات أغلبية مسلمة، فُوجئتُ بدعوة من معبد يهودي في مدينة روشيستا بولاية نيويورك، لأجل مؤازرة المسلمين ومساندتهم. وهذه الدعوة كانت موجَّهة كذلك إلى الجالية اليهودية، التي حضرت بشكل كبير، حيث امتلأ المعبد من عند آخره، ومعظم الحاضرين كانوا من هذه الجالية! ولا أزال أتذكر كلمات الحاخام الذي ذكر أصول أسرته التي ترجع إلى أوروبا وما عانت من اضطهاد هناك قبل هجرتها إلى أمريكا، وأكّد أنه لن يقبل منع المضطهَدين المسلمين من المجيء إلى هذه البلاد، كما شدّد على ضرورة الكف عن استهداف المسلمين، وخاطب اليهودَ الحاضرين طالباً منهم أن يبذلوا قصارى جهودهم للحيلولة دون تنفيذ القرارات التي تستهدف المسلمين وجاليتهم في أمريكا.

وهذا دليل قاطع على عدم صحة القالب النمطي الذي شُوّهت به صورة الشعب اليهودي في مخيلة كثير من المسلمين، فاليهود الغربيون ساندوا الأقلية المسلمة في أصعب الظروف حين تكالبت عليهم الأمم وانفض الآخرون مِن حولهم، فأصبحوا بلا ظهير ولا سند. فلو صح ما يقال عن اليهود لانتهزوا فرصة ضعف الجالية المسلمة في الغرب، ولَوَقَفُوا مع الحاقدين على الوجود الإسلامي المتعاظم في الغرب، لكن هذا لم يحدث إطلاقاً، فالجالية اليهودية وقفت بجانب المسلمين في محنتهم.

وهذه الحقيقة يعرفها كل مسلم عاش في الغرب واحتكَّ بالجالية اليهودية احتكاكاً مباشراً، لكن قَلَّما نجد مَنْ يَجسُر على الاعتراف به أو البوح به في الأوساط الاسلامية؛ خوفاً من الاتهام بالعمالة، وبموالاة غير أهل الملة تارةً وبالتَّصَهْيُن تارةً أخرى، بل بالخيانة للموروثات الاجتماعية والثقافية التي تتكئ على قوالب نمطية قائمة على تعميمات خاطئة للشعب اليهودي وما يتبعها من إطلاق أحكام قاسية على كل مسلم سَوَّلَتْ لَه نفسُه التّعامُلَ مع هذا الشعب بإنصاف ومن دون أحكام مسبقة كما يجب أن يُعامَل به جميع الشعوب الأخرى. وهذا لا شك في أنه نوع من الﻹرهاب الاجتماعي الذي نتعايش معه، ونرضخ له كثيراً؛ صيانة للذات والأنا، مع أنه يتعارض تماماً مع تعاليم ديننا الحنيف، الذي يُعَدُّ من أبرزِ مبادئه الآيةُ القرآنية "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، والله المستعان.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبدالعزيز غي
أستاذ في جامعة ولاية بنسلفانيا الأمريكية
كندي الجنسية، حاصل على الليسانس والماجستير والدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة جنيف بسويسرا، وعلى دبلوم عالٍ في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، وشهادة الليسانس في اللغة العربية. عاش 5 سنوات في الشرق الأوسط، و12 سنة في أوروبا، وأكثر من نصف عقد في أمريكا الشمالية. مهتم بحوار الأديان والثقافات والشعوب، وحالياً يعمل أستاذاً لدراسات الأديان واللغة العربية في جامعة ولاية بنسلفانيا وفي كلية نازاريث في أمريكا.
تحميل المزيد