هل يوجد اختلاف بين دماغ الرجل والمرأة؟ كثيرون قد يجيبون عن هذا السؤال بـ "نعم"، مرجعين اختلاف الاهتمامات بين الذكور والإناث إلى أسباب "بيولوجية" تتعلق ببنية دماغ كل منهما.
فحسب الصور النمطية الشائعة، الرجال بارعون في المجالات العلمية، وللنساء قدرات مميزة تسمح لهن بإنجاز عدة مهام في وقت واحد، بسبب اختلاف عصبي بين الجنسين.. صدِّق أو لا تصدِّق، لكن ذلك مجرد هراء، إذ لم يتمكن العلماء حتى يومنا هذا من إيجاد اختلافات يُعتد بها بين أدمغة الرجال والنساء، فما أصل هذه الأسطورة؟ وما مدى دقتها؟
هل يوجد اختلاف بين دماغ الرجل والمرأة؟
مثله مثل القلب والكلى والرئتين والكبد، يعتبر الدماغ أيضاً عضواً متماثلاً لدى الذكور والإناث، فرغم النظريات الفقيرة علمياً والتي تروج لوجود اختلافات بيولوجية بين أدمغة النساء والرجال، لم يتمكن العلم فعلياً من اكتشاف أي فروقات حقيقية.
فإذا كنتم مهتمين بمعرفة تفاصيل أكثر عن هذا الموضوع، ومعرفة سبب اختلاف الاهتمامات والسلوكيات بين الرجال والنساء "رغم تشابه أدمغتهم"، فإليكم ما ورد في مجلة Nature البريطانية:
تاريخ التحيُّز الجنسي
من المخزي أن تاريخ التحيز الجنسي يمتد من قرون طويلة حتى يومنا هذا، إذ توجد على الدوام صور نمطية تتعلق بذكاء المرأة وقدراتها والتي يتم ربطها، بجهل تام، مع بنية دماغ المرأة، التي لا تختلف علمياً عن بنية دماغ الرجل.
وإذا كان الجهل بالجهاز العصبي وخفاياه شائعاً في عام 1895، عندما أعلن عالم النفس الاجتماعي غوستاف لوبون أن النساء "يمثلن أدنى أشكال التطور البشري"، فالأمر مختلفٌ اليوم، ومع ذلك لا نزال نجد من يعتدُّ بأسس غير علمية لتصنيف المرأة دون الرجل عندما يتعلق الأمر بالقدرات الذهنية.
ففي عام 2017، كتب مهندس شركة جوجل جيمس دامور مدونة شاركها مع زملاء العمل حول "الأسباب البيولوجية" لندرة وجود النساء في مهام التكنولوجيا وأدوار القيادة، مبيناً أن البنية البيولوجية لدماغ المرأة تجعلها غير قادرة على أداء هذه المهام.
على الرغم من أن المسار البحثي في موضوع اختلاف أدمغة الرجال والنساء يشير إلى أن النساء لسْن أقل ذكاءً من الرجال، إذ لا توجد فروق بيولوجية واضحة بين الجنسين فيما يخص الجهاز العصبي بأكمله.
دراسات تفتقر إلى الدقة
في مُستهل كتاب "The Gendered Brain"، تطرّقت خبيرة علم الأعصاب الإدراكي جينا ريبون إلى واحدة من دراسات المخ التي ادَّعت أنها "أخيراً" تشرح الفارق بين الرجال والنساء.
وكانت الدراسة عبارة عن تحليل لتصوير بالرنين المغناطيسي أجراه باحثون بجامعة كاليفورنيا في مدينة إرفاين لـ21 رجلاً و27 امرأة.
وعلى الرغم من صغر نطاق الدراسة وفقاً لمعايير وقتنا هذا، نالت تلك الدراسة المحدودة شهرة وتسويقاً ودعاية فوق المتوقع، إذ جرى تداولها في الصحف والمدونات إضافة إلى التلفزيون والكتب.
كما أن عديداً من المحللين "غير المختصين"، مثل مذيعِي البرامج الصباحية على سبيل المثال، بدؤوا بتكوين استنتاجات عن الفروق بين الجنسين، وعزو تلك الفروق إلى اختلاف أدمغة الرجال عن أدمغة النساء.
فوفقاً لتلك الدراسة التي اعتمدت على التصوير المغناطيسي للأدمغة، فإن الرجال لديهم مادة رمادية أكثر بست مرات ونصف المرَّة عمّا لدى النساء، في حين أن النساء لديهن عشرة أضعاف كمية المادة البيضاء الموجودة في أدمغة الرجال.
اعتبر عديدون ذلك إشارة إلى الاختلاف البيولوجي بين أدمغة الذكور والإناث، مستنتجين أن ذلك هو السبب في مهارة الرجال بالرياضيات وقدرة النساء على تعدد المهام.
وبحسب جينا، يجب في هذه الحالة أن تكون أحجام أدمغة النساء أكبر بنحو 50% من أدمغة الرجال، وأن كل ما يتم تداوله بشأن هذه الاختلافات ما هو إلا نتيجة تاريخ طويل من تراكمات التحيز الجنسي.
هل لحجم الدماغ علاقة بالذكاء؟
يمتلئ تاريخ الأبحاث التي أُجريت بشأن الاختلاف بين الجنسين بالجهل بمنطق الحساب، وسوء التفسير، والتحيز في النشر، والقوة الإحصائية الواهنة، والضوابط غير الكافية وما هو أسوأ.
وتكشف جينا ريبون، الباحثة الرائدة في مواجهة نظريات علم الأعصاب التي تعوزها الجودة على مستوى الاختلافات الجنسية، أمثلة كثيرة عن تلك الدراسات الضعيفة في كتابها.
وحسبما توضّح جينا، فإن السعي وراء إيجاد الفروق بين أدمغة الذكور والإناث قديم جداً، إلا أنه تضخَّم في العقود الثلاثة الماضية منذ انضمام الأبحاث المعتمدة على تقنيات تصوير الرنين المغناطيسي إلى المعركة.
ومع ذلك، مثلما يكشف كتاب The Gendered Brain، لم تتجسَّد نتائج قاطعة حول اختلافات الدماغ المرتبطة بالجنس، فبخلاف "خمس أوقيات ينقصها وزن أدمغة النساء (ما يعادل 141.748 غراماً)"، ويتشدَّق بها كثيرون منذ القرن التاسع عشر، لم يحدد علماء الأعصاب الحديثون أي اختلافات حاسمة تفرّق بين فئة أدمغة الرجال والنساء.
ففي أدمغة النساء، لا تنتشر معالجة اللغة عبر نصفَي الكُرة المخّية على نحو يختلف عن الرجال، حسبما أعلنت دراسة نُشرت عام 1995 في مجلة Nature.
ويزداد حجم الدماغ مع حجم الجسم، وتتناسب بعض السمات، مثل نسبة المادة الرمادية إلى المادة البيضاء أو المنطقة المستعرضة من الجهاز العصبي والتي تسمى الجسم الثفني، بشكل غير خطّي طفيف مع حجم الدماغ.
لكن هذه كلها اختلافات في الدرجة لا النوع.
وحسبما تشير جينا ريبون، لا يُنظر إلى تلك العوامل عند مقارنة الرجال ذوي الرؤوس الصغيرة بالنساء ذوات الرؤوس الكبيرة، ففي النهاية تملك النساء ذوات الرؤوس الكبيرة حجماً أكبر من حجم دماغ الرجال ذوي الرؤوس الصغيرة ولا يرتبط هذا كله بذكاء أو مهارات أي منهما.
كما أن هذه الاختلافات ليست لها أي علاقة باختلاف هوايات النساء وميولهن عن هوايات الرجال وتفضيلاتهم.
لماذا يختلف سلوك واهتمامات الجنسين إذاً؟
على الرغم من ذلك، لا يزال الأمر محيِّراً بالنسبة لكثيرين، فإذا لم تكن هناك اختلافات في بنية الدماغ بين الرجال والنساء، فكيف نفسر إذن الاختلافات الصارخة بكثير من الأحيان في سلوك كل من الجنسين واهتماماتهما؟
قد تساعدنا أطروحة جينا ريبون في إيجاد إجابة مقنعة.
إذ تتناول أطروحتها تأثير التمييز الاجتماعي بين الجنسين على الدماغ البشري.
وتستطرد جينا في سرد قضيتها في أربعة أجزاء محددة، بدءاً من التاريخ البائس لأبحاث الفروق بين الجنسين من خلال أساليب التصوير العصري الحديثة، وظهور علم الأعصاب الاجتماعي الإدراكي، والأدلة الضعيفة، على نحو يدعو إلى المفاجأة، على وجود اختلافات بين أدمغة الجنسين لدى حديثي الولادة.
وتُظهر جينا كيف يمكن أن تبدي أدمغة الأطفال التي تتشبّع بثقافة المجتمع اختلافاً بعضها عن بعض، بفضل ثقافة "اللون الوردي للإناث، أما الأزرق للذكور" والتي يُغمرون بها منذ ما قبل ولادتهم حين يقرر أبواهم الكشف عن نوع الجنين.
والجزء الرابع من الأطروحة يقودنا إلى القرن الحادي والعشرين، لكنه لا يقودنا إلى نهاية سعيدة.
إنه يركز على النساء في العلوم والتكنولوجيا، وكيف أن العالم الذي يُميّز بين الجنسين -وضمن ذلك امتهان المجالات العلمية والصورة النمطية للرجولة المرتبطة بالألمعية- قد أعاق دخول النساء إلى هذه المجالات والمُضيّ قدماً بها.
إذ تُعتبر النساء الموهوبات "شديدات الصمود"، أما الرجال فإنهم "عباقرة ضارون"، وهو تمييز يتعلّمه الأطفال في سن السادسة، وفقاً للبحث الذي أجراه كل من لين بيان وسارة جين ليزلي وأندريه سيمبيان.
وكل هذه العوامل تُسهم في دورة بناء الدماغ للتوقعات التفاضلية والثقة بالنفس وخوض المخاطرات التي تدفع الفتيان والفتيات إلى مسارات مختلفة من الحياة المهنية والنجاح.