تمكَّن أبوبكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، من الاختباء في منطقةٍ غير مُحتملةٍ من سوريا، تُعتبر قاعدةً لجماعةٍ مُنافسة. وهذا لأنَّه كان يدفع لأعضائها المال مُقابل الحماية، بحسب فواتير المدفوعات التي استعادها الباحثون.
وقالت صحيفة New York Times الأمريكية، إن الفواتير، المُطابقة لحسابات الدولة الإسلامية الدقيقة، كشفت أنَّ الجماعة دفعت 67 ألف دولار على الأقل لأعضاءٍ في جماعة "حراس الدين"، وهي فرعٌ غير رسمي لتنظيم القاعدة وأعداء لداعش.
ورغم أنَّ الجماعة المنافسة حفظت سر البغدادي، لكن أفشاه في النهاية أحد رجاله، بحسب ما قاله اثنان من المسؤولين الأمريكيين، يوم الأربعاء 31 أكتوبر/تشرين الأول. مما أدَّى إلى مصرعه في النهاية خلال مُداهمة لقوات العمليات الخاصة الأمريكية، الأسبوع الماضي.
وظهرت تفاصيل جديدة عن عملية المُداهمة يوم الأربعاء 30 أكتوبر/تشرين الأول 2019، ومنها أنَّ القوات الأمريكية استعادت عدداً من الحواسيب والهواتف المحمولة من داخل مُجمَّع البغدادي. علاوةً على أنَّ البنتاغون أفاد بمصرع ستة أشخاص آخرين داخل المُجمَّع، إلى جانب البغدادي واثنين من الأطفال الذين اصطحبهم معه أثناء تفجير السترة الناسفة.
فواتير تكشف كم دفع البغدادي لأعدائه لحمايته
وعثرَ أشخاصٌ يتواصلون مع أسعد المحمد، عميل الاستخبارات الأمريكية المُتقاعد، على سجل الفواتير الذي يُشبه عشرات السجلات التي تركها بيروقراطيو الدولة الإسلامية في المكاتب التي كانوا يشغلونها حين تداعت حكومتهم، بالتزامن مع انهيار خلافتهم الإقليمية.
ويشمل السجل ثماني فواتير يعود تاريخها إلى أوائل عام 2017 ومنتصف عام 2018، وبها مدفوعاتٌ من جانب داعش لأعضاءٍ في "حراس الدين" مُقابل مُعدَّاتٍ أمنية وطبية، والأجور والنفقات اللوجيستية. وصدرت الفواتير تحت شعار ديوان أمن الدولة الإسلامية، وحملت توقيع رجالٍ من المسؤولين في "حراس الدين".
ونصَّت إحدى الفواتير التي تعود إلى صيف عام 2018 وبمبلغ سبعة آلاف دولار "تُدفع مُقابل تجهيز القواعد للإخوة الواصلين من محافظة الخير"، وهو الاسم الذي أطلقه داعش على المنطقة المُحيطة بدير الزور شرقي سوريا. إذ كانت المنطقة واحدةً من آخر معاقل داعش في سوريا، حيث ظلَّت تحت سيطرة مقاتليه قبل أن يفقدوها في وقتٍ مُبكِّرٍ من العام الجاري.
وقال المحمد، الذي يشغل الآن منصب زميل الأبحاث البارز في برنامج جامعة جورج واشنطن للتطرُّف، إنَّ الفاتورة تكشف أيضاً أنَّ "داعش حاول اختراق" صفوف "حراس الدين" رغم أنَّ الجماعتين كانتا بمثابة الأعداء آنذاك.
ولا تكشف السجلات عن تحالفٍ على المستوى التنظيمي بين الجماعتين، بحسب أيمن جواد التميمي، الباحث المستقل من سوريا.
واستشهد ببيانٍ رسمي من "حراس الدين" في فبراير/شباط، دعت فيه الجماعة أعضاءها لتجنُّب التواصل مع أعضاء داعش. علاوةً على إعلانٍ من داعش في رسالته الإخبارية الأسبوعية، بشهر أبريل/نيسان عام 2018، قال خلالها إنَّ أعضاء "حراس الدين" يجب إقصاؤهم.
عبر "قناة خلفية" كانت مكلفة بدفع الأموال
ولكن التميمي أوضح أنَّه في حال صحة الوثائق فإنَّها تُظهر وجود قناةٍ خلفية تُنقل عبرها الأموال بين الفرع الأمني المرهوب لداعش وبين أعضاءٍ رفيعي المُستوى في جماعة "حراس الدين".
ووافق على مراجعة الفواتير الثماني، وخلُص إلى أنَّها لا تبدو مُقلَّدةً بناءً على المصطلحات المُستخدمة والعلامات الموجودة في الفواتير، والتي تتوافق مع سجلات داعش الأخرى.
وقال المسؤولون الأمريكيون، الذين تحدّثوا شريطة عدم الكشف عن هوياتهم، لمناقشة معلوماتٍ استخباراتيةٍ سرية، إنَّ البغدادي وصل إلى المُجمَّع في إدلب بحلول يوليو/تموز.
وأضاف المسؤولون الأمريكيون أنَّ البغدادي تعرَّض للخيانة بواسطة واحدٍ من القلائل الذين وثق بهم، رغم أنَّ داعش كان يدفع لأعضاء في الخلية التابعة لتنظيم القاعدة من أجل الحماية.
ولم تُكشَف هوية المُخبر بسبب المخاوف على حياته، لكن أحد الأفراد المُطَّلعين على الأحداث وصفه بأنَّه "صديقٌ موثوقٌ ومُقرَّبٌ للغاية من البغدادي".
قبل أن يغدر مقربون من البغدادي بزعيمهم
وجرى تجنيد المُخبر على يد الذراع الاستخباراتية لـ "قوات سوريا الديمقراطية"، الميليشيا التي يقودها الأكراد وتتمتَّع باتصالاتٍ عديدة في المنطقة. وقال مظلوم عبدي، قائد الميليشيا، لصحيفة New York Times إنَّ المُخبر هو من سرق الملابس التحتية للبغدادي، وعينةً من دمه لإجراء فحوصات الحمض النووي، وتأكيد أنَّ الشخص الخاضع للرقابة هو البغدادي بالفعل.
وقال العديد من أعضاء داعش، الذين شاهدوا البغدادي عن قربٍ خلال السنوات الخمس الأخيرة، إنَّه صار مهووساً للغاية باحتمالية اختراق دائرته المُقرَّبة. لدرجة أنَّه سلَّم مقاليد أمنه لحفنةٍ من مُساعديه المُقرَّبين وأفراد عائلته المُوسَّعة.
ويعتقد المسؤولون الأمريكيون، والمُحلِّلون الذين يتتبَّعون التنظيم عن قُرب، أنَّ حاجي عبدالله -أحد زملاء البغدادي- ربما يصير زعيم التنظيم المُقبل. لذا أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً عن رصد مكافأةٍ قدرها خمسة ملايين دولار مُقابل أيّ معلوماتٍ تُؤدِّي إلى القبض عليه، واصفةً الرجل بأنَّه أحد أكبر مُنظِّري التنظيم وأدَّى دوراً مباشراً في تنظيم وتبرير اغتصاب واستعباد داعش لنساء الأقلية اليزيدية في العراق.
مهمة تتبُّع البغدادي لم تكن سهلة
ومع قتل الكثير من قادة داعش على مدار السنوات الأخيرة تحدَّث المُحلِّلون عن ثقبٍ أسود فيما يتعلَّق بفهمهم لهيكل القيادة أسفل البغدادي. وقال المسؤولون الأمريكيون إنَّ أحد أهدافهم المباشرة كان البدء في تحليل البيانات الموجودة على الهواتف المحمولة الخمسة أو الستة، والاثنين أو الأربعة حواسيب المحمولة، ومحركات الذاكرة العديدة التي عُثِر عليها داخل المُجمَّع حيث قُتِلَ البغدادي.
وكانت البيانات أقل بكثير مما عثروا عليه في أبوت آباد بباكستان، خلال عملية المُداهمة التي شهدت مقتل أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، بحسب مسؤولٍ حالي. ولكن يُمكن لتلك البيانات أن تُمثِّل نافذةً مُهمةً على طريق عمل الخليفة الغامض والتنظيم الذي تركه وراءه.
وفي مؤتمرٍ صحفي يوم الأربعاء، قال البنتاغون إنَّ ستة أشخاصٍ -من بينهم أربع نساءٍ عضواتٍ في داعش- قُتِلوا خلال مُداهمة فيلا البغدادي.
وقال الجنرال كينيث ماكينزي، قائد القيادة المركزية بالجيش الأمريكي، إنَّ الستة لم يستسلموا حين طُلِب منهم ذلك باللغة العربية. وخَشِي فريق المُداهمة من أن يكونوا قد ارتدوا ستراتٍ ناسفة.
وأضاف أنَّ عدداً غير مُحدَّد من المُقاتلين الآخرين خارج المُجمَّع أطلقوا النار على المروحيات الأمريكية، لكن ماكينزي أوضح أنَّهم ليسوا من أعضاء داعش على الأرجح. وأردف أنَّ أولئك المُقاتلين قُتِلوا بضرباتٍ جوية أمريكية.
وتابع قائلاً إنَّ البغدادي اصطحب طفلين -وليس ثلاثة كما ورد على لسان المسؤولين أول الأمر- إلى نفقٍ مسدودٍ معه، أثناء اجتياح القوات الأمريكية. ولَقِيَ الطفلان مصرعهما حين فجَّر البغدادي السترة الناسفة.