يُعد العسر أو مستخدمو اليد اليسرى أقليةً كبيرةً جداً حين يتعلق الأمر بسيطرة يد على الأخرى؛ فكلّ شيء مصممٌ غالباً ليناسب أصحاب اليد اليمنى، بدءاً من فأرة الحاسب، ومروراً بالمقصات، وحتى الآلات الموسيقية.
لكن رغم أن الحياة مليئة بالمنغصات لمستخدمي اليد اليسرى في العالم، ربما يكون عُسرهم ميزة أو حتى تفوق.
فقد حددت دراسة جديدة للمرة الأولى الفروق الجينية بين مستخدمي اليد اليسرى ومستخدمي اليد اليمنى.
وكما اتضح، تفترض إحدى هذه الاختلافات تفوق العُسر بالمهارات اللفظية.
باحثون من جامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة نشروا هذه النتائج في دورية "Brain" العلمية سابقاً هذا الشهر، سبتمبر/أيلول.
وظائف جانبي المخ
إن فهم الفرق بين الجانبين الأيسر والأيمن في المخ مفيد لفهم بيانات البحث.
اختصاراً، يرتبط الجزء الأيسر من المخ بالمهام المنطقية واللغة، بينما يضطلع الجزء الأيمن أكثر بالإبداع والحسابات المجردة.
يفسر باول ماتيس، طبيب الأعصاب الذي يحمل درجة الدكتوراه، ويعمل بمؤسسة نورث ويل هيلث للأعصاب والجراحة العصبية: "كل مهمة، وسلوك، وإدراك، ومزاج، وشعور جسدي يتطلب أن تعمل مناطق مختلفة من المخ كشبكة".
وتابع ماتيوس لموقع Health Line: "هذا الاتصال هو ما يتيح لسلوك، أو فعل، أو فكرة أن تحدث وتوجد. لو فقدت هذا الاتصال بين المناطق، لن تعمل الأمور بكفاءة أو ستفقد المهام".
4 مناطق في المخ مرتبطة بسيطرة يد دون الأخرى
فحص الباحثون في هذه الدراسة الحمض النووي لـ400 ألف شخص من مخزون معلومات البنك الحيوي في بريطانيا، وهي دراسة جينية طويلة المدى تفحص بيانات صحية لعشرات آلاف المتطوعين.
تقول جوينايل داوود، حاملة الدكتوراه، والكاتبة المشاركة في الدراسة، وزميلة مركز ويلكوم للتصوير العصبي التكاملي التابع لجامعة إكسفورد إن قاعدة البيانات الضخمة هذه توفر بيانات لا تقدر بثمن للباحثين.
وكتبت: "بفضل هذه المصادر الرائعة في دراسة البنك الحيوي في بريطانيا، هذه هي المرة الأولى التي يتبين فيها أن العُسر مدفوع بتفاعل معقد بين جينات متعددة تساهم في تنظيم المخ، خاصة في المنطقة المرتبطة باللغة".
لتفسير البيانات، ركَّز الباحثون اهتمامهم على 4 مناطق في المخ مرتبطة بسيطرة يد دون الأخرى.
مستخدمو اليد اليسرى والمهارات اللغوية
تقول جوينايل إن اكتشاف ارتباط البدائل الجينية المرتبطة بالعُسر بمناطق المخ المتعلقة بالمهارات اللغوية واللفظية كان مفاجأة سارة.
وكتبت: "فوجئنا بأن ثلاثة جينات من أصل أربعة من متغيراتنا الجينية المرتبطة بتفوق يد على الأخرى كانت في الواقع مرتبطة بجينات تضطلع بدورٍ فعَّال في تطوير المخ وتنظيمه. كانت هذه الجينات مرتبطة بما نسميه الهيكل الخلوي، وهو ما يساعد في توجيه بناء وعمل خلايا الجسم".
من هنا، فحص الباحثون التصوير الدماغي لعشرة آلاف شخص واكتشفوا أن الفروق الموجودة في الهيكل الخلوي والمرتبطة بتفوق يد على الأخرى يمكن في الواقع كشفها بوضوح.
لكن أكبر النتائج كانت أن الجزأين الأيمن والأيسر في المخ عند مستخدمي اليد اليسرى أكثر نشاطاً فيما بينهما، ما يعني أن العُسر ربما يتمتَّعون بمهاراتٍ لفظية ولغوية أفضل بطبيعة الحال، رغم أن هذا غير مثبت.
وقال ماتيس: "تميل اللغة إلى الارتباط بالنصف الأيسر من المخ بصفة رئيسية، وقد أظهر الباحثون عند مستخدمي اليد اليمنى الارتباط التقليدي بنصف المخ الأيسر، النصف المسيطر فيما يتعلق باللغة. بيدَ أن العُسر أظهروا اتصالاً أفضل بين مناطق اللغة في نصف المخ الأيسر وبين المناطق المشابهة في النصف الأيمن، وهو النصف الذي لا يرتبط عادة باللغة".
والعلماء يرصدون العلاقة بين نصفي المخ
تعتبر هذه الاكتشافات هامة، لكنها أيضاً فتحت الباب أمام مجموعة أسئلة مثيرة.
أولها كبداية هو: هل تآزر المخ عند الأشخاص العُسر يمنحهم حقاً قدرات لغوية أفضل؟
كتبت داوود: "نحن بحاجة إلى تحديد ما إذا كان هذا التضافر بين مناطق اللغة في النصفين الأيمن والأيسر في المخ عند العُسر يمنحهم حقاً تفوقاً في القدرات اللفظية. ونحتاج لذلك إلى إجراء دراسة بها فحص عميق ومفصل للقدرات اللفظية".
وأشارت أيضاً أنه في الوقت الذي يكون فيه البنك الحيوي في المملكة المتحدة مجموعة هائلة من البيانات العلمية، فإن تأكيد اكتشافاتهم بمجموعات دراسة أكبر حول العالم سيكون مثيراً للاهتمام.
يظهر البحث أيضاً أن تفوق يد على الأخرى ربما يكون مرتبطاً بارتفاع أو انخفاض احتمالية تطوير اضطرابات عصبية.
ويضيف ماتيس: "هذه المناطق أو الجينات مرتبطة أيضاً بالنمو العصبي. وتظهر الدراسة علاقة بين تفوق يد على الأخرى الذي يفترض أن يكون على الأقل جينياً جزئياً، والاضطرابات التي يُعتقد أيضاً أنها تتعلق بتطور المخ من ناحية النمو".
ويقول خاتماً: "أعتقد أن الخطوة القادمة هي شيء ذكروه بالفعل: محاولة ربط هذه العوامل الجينية، والعوامل المتعلقة بتفوق يد على الأخرى بالسمات الفردية الأخرى، خاصة الإدراك أو التفكير".