دعا وزير الشؤون الدينية والأوقاف في السودان، نصر الدين مفرح، الأقليات اليهودية التي فارقت السودان للعودة إلى البلاد، مؤكداً الحفاظ على التّعايُش الديني والمذهبي.
وجاء ذلك في لقاء أجراه مفرح مع قناة "العربية"، الجمعة 6 سبتمبر/ أيلول 2019، وذلك بعد تعيينه وزيراً للشؤون الدينية والأوقاف في حكومة رئيس الوزراء السوداني الجديد، عبدالله حمدوك.
وقال مفرح موجهاً كلامه لليهود الذين غادروا السودان: "ندعوهم بحق التجنس والمواطنة للرجوع إلى البلاد، لأن هناك دولة مدنية في هذا البلد، المواطنة فيها هي أساس الحقوق والواجبات" .
مفرح أشار في اللقاء إلى أن السودان بلد متعدد في أفكاره وقيمه وفي ثقافاته ومشاربه الفكرية والمذاهب الإسلامية وحتى في أديانه، وقال إنّ هناك ديناً إسلامياً ومسيحياً، وكانت هناك أقليات يهودية فارقت البلد.
وأكد الوزير أن "الإسلام دخل السودان من قديم الزمان عن طريق السلم وليس الحرب، واعتبر أنّ التسامح الديني وتعايش المذاهب الفكرية والمجموعات المختلفة أمر مهم، وهي من القضايا التي سيعملون عليها"، قائلاً إن "التعايش مبدأ إسلامي عظيم" .
واعتبر مفرح أن هنالك الكثير من المعطيات تجعلهم يعملون على قضية التعايش الديني والمذهبي، والتصالح والسلام، والتصافي والتعافي، لبناء الدولة على أسس جديدة، مضيفاً أن "الأساس فيها الحرية والمساواة والعدل والأخلاق والمثل النبيلة" .
متى دخل اليهود السودان؟
يقول المؤرخون إن اليهود دخلوا السودان أول مرة عام 1821 من الحدود الغربية، ويشير أستاذ التاريخ والآثار بروفيسور فتح العليم عبدالله، إلى أن اليهود في تلك الفترة كانوا يعتقدون أن جبل مرة، الواقع في إقليم دارفور، هو جبل الطور المقدس في ديانتهم.
غير أن المهاجرين الجدد بدأوا الانتشار بشكل ملحوظ مع بداية الحكم الإنجليزي عام 1899، الذي تفصل بينه والحكم العثماني، الدولة المهدية الوطنية، التي تأسست في 1885.
ولاحقاً، تمدد اليهود في العاصمة ونشطوا في الأعمال التجارية، لدرجة أن إحدى أكبر وحداتها الإدارية أخذت اسم "الحي اليهودي"، وفقاً لما ذكرته وكالة الأناضول.
لكن الوجود اليهودي اهتز مع إعلان "قيام دولة إسرائيل" بعد احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1948، إذ لم يعد أبناء هذه الفئة محل ترحيب كما كانت عليه الحال في العقود الماضية.
واهتز وضعهم أكثر بعد حرب 1967، التي انتهت باحتلال إسرائيل أراضي عربية واسعة، وباتت تعرف لاحقاً بـ "النكسة"، أو حرب الأيام الستة.
غياب الأثر اليهودي في السودان
طُوي الأثر اليهودي بشكل شبه كامل في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، الذي حكم ما بين 1969ـ1985.
وكانت النقطة الفاصلة عندما طبق نميري قوانين الشريعة الإسلامية عام 1983، ما حمل اليهود الذين يعمل قسم كبير منهم في تجارة الخمور على هجرات جماعية.
وما دفعهم إلى الهجرة أيضاً، قرارات التأميم التي اتخذها نميري بحق ممتلكات الأجانب عموماً.
وكان من أبرز المصادرات التي طالت أملاك اليهود، شركات أسرة الحاخام "سلمون ملكا" التي كانت تعرف باسم "جلاتلي هانكي" .
ولم يكتف نميري بتأميم شركة الحاخام، بل أمم بيته المطل على نهر النيل الأزرق في الخرطوم، ليكون مقراً لحزبه، وتحول فيما بعد إلى مقر لوزارة الخارجية حتى الآن.
ويروي أستاذ التاريخ فتح العليم عبدالله واقعة محورية في هجرة اليهود، شهدتها مدينة كريمة شمالي البلاد عام 1975، وهي مباراة لفريقي كرة قدم هما فريق "البركل" المدعوم من اليهود، وفريق "كريمة" .
وبحسب المؤرخ السوداني "فاز فريق البركل بهدفين لهدف، وأعلنت النتيجة على الإذاعة الإسرائيلية بعد 5 دقائق من نهاية المباراة في الساعة 18.5 بالتوقيت المحلي" .
وترتّب على ذلك، كما يقول عبدالله، حملة أمنية ضد اليهود لـ "معرفة أجهزة الإرسال التي تمكنوا عبرها من إرسال نتيجة المباراة، غير أن السلطات فشلت في ذلك" .
ومع نهاية حكم نميري في 1985، لم يكن هناك وجود علني للجالية اليهودية، وإن كانت كثير من العائلات السودانية اليوم، ذات أصول عبرية، تتحاشى ذكرها.
أطماع في السودان
وبالمقابل، فإن الصيدلي السوداني "منصور إسحاق إسرائيلي بنيامين"، حفيد أشهر تاجر يهودي، لا يخفي أطماع جده الذي أتى إلى السودان في القرن التاسع عشر.
ويحكي بنيامين في مقطع فيديو سبق أن نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، للتوثيق لعائلته، أن جده "جاء من العراق، وفور وصوله تزوج امرأة من قبيلة الدينكا، ولاحقاً تزوج من امرأة إثيوبية" .
ويعتقد الصيدلي الذي اعتنقت عائلته الإسلام، أن الزيجتين "لم تأتيا صدفة، بل إن جدي كانت لديه رغبة في بناء علاقات مع القبائل التي تسكن بالقرب من منابع النيل" .
وتستوطن قبيلة الدينكا جنوب السودان، الذي انفصل عن الدولة الأم في 2011، وقريب نسبياً من بحيرة فكتوريا، منبع النيل الأبيض، أحد الرافدين الرئيسين لنهر النيل.
فيما ينبع النيل الأزرق، الرافد الرئيس الثاني لنهر النيل، من بحيرة تانا في الهضبة الإثيوبية، شرقي السودان.
آثار اليهود
ومن الآثار اليهودية في السودان، الكنيس الذي كان قائماً في المقر الحالي لوزارة الإعلام، لكن لا يعرف موعد هدمه على وجه الدقة.
والحال كذلك، لا شيء مادياً يدلل على التاريخ العبري في البلاد سوى مقبرة تتوسط العاصمة الخرطوم، التي تطرح تساؤلاً عن مقابر أخرى مجهولة؛ إذ إن هذه المقبرة توجد بها مقابر لنحو 60 شخصاً، ولا يعقل أن يكون عدد الموتى اليهود في حدود 60 لقرابة قرنين.
لكن أستاذ التاريخ يشير إلى أن "التفسير الوحيد قد يكون أنه حتى سبعينات القرن الماضي، كان المسلمون والمسيحيون واليهود يدفنون موتاهم في مقبرة واحدة، مقسمة داخلياً، دون حدود واضحة" .
وبينما تشير روايات غير مؤكدة إلى مقبرة يهودية على مساحة خالية حالياً وسط الخرطوم، يبقى المدفن الحالي بشواهده الـ60 الوحيد الذي يكسر صمت التاريخ حيال هذا الإرث العبري.
ومَن يتفقّد مقبرة اليهود اليوم، سرعان ما يقع نظره على قبر الحاخام مالكا، المزين بنجمة داود، ويفيد شاهده باللغتين العبرية والإنجليزية أن صاحبه مات في 1935، بعمر 72 عاماً.