تبدو من بعيد حتى يومنا هذا كأي قرية ألمانية أخرى بمنازلها وتخطيطها، لكنها خالية من السكان وكأن الزمن توقف فيها منذ عقود، تجري داخلها باستمرار تدريبات على المعارك، إنها قرية بونلاند البافارية التي تغيب عن أجهزة ملاحة السيارة.
وتعد بونلاند قرية أشباح بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ تم إجلاء سكانها منها منذ أكثر من 50 عاماً وتخصيصها لتدريبات الجيش الألماني والجنود الأجانب الموجودين في ألمانيا، كنموذج حربي للمعارك من منزل لآخر.
ويمتد تاريخها بحسب تلفزيون "بايرشه روندفونك" العام إلى ألف عام وتضم 120 منزلاً.
وتقع القرية على مسافة تقارب الثلاثين كيلومتراً غرب بلدة شفاينفورت بولاية بايرن، وسط موقع التدريبات العسكرية التابع للجيش (بوندزفير) في هاميلبرغ. ولا يظهر موقع القرية على جوجل عند البحث بشكل مباشر عنها (Bonnland)، وإنما عندما يتم البحث مقروناً باسم المنطقة التي تتواجد فيها (Hammelburg).
النازيون أول مَن أخلوها
وكان الديكتاتور النازي أدولف هتلر أمر بإخلاء القرية في العام 1938 من سكانها الأصليين لحاجته لمزيد من الأراضي قرب موقع هاميلبرغ العسكري، لأغراض التدريب الحربي.
ووفقاً لمقال سابق لصحيفة "زود دويتشه تسايتونغ"، جعل هتلر تشكيلاته العسكرية تتدرب في القرية على الهجوم على بولندا، أول بلد هاجمه جيشه في الحرب العالمية الثانية. وكان يأتي إليها ما يصل إلى 5 كتائب متمركزة في قاعدة هاميلبرغ القريبة، للتدريب على وجه الخصوص على احتلال الأماكن.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وصل بعض سكانها الأصليين مع الكثير من المهجرين القادمين من المناطق الشرقية للقرية التي كانت تضم 50 منزلاً فارغاً، إلى جانب قلعتها، وهم يظنون أنهم سيبقون فيها دائماً.
وعادت الحياة للقرية فتشكل نادي كرة قدم ونادي غناء، وآخر نسائي لكرة اليد، وباتت الصلوات تقام في كنيستها.
وبلغ عدد سكانها يوماً من الأيام 560 شخصاً، لكن الجيش الألماني طلب منهم أواسط ستينيات القرن الماضي مغادرتها مجدداً.
وبحسب "زود دويتشه تسايتونغ" بدأ الجيش الألماني منذ العام 1956، تقديم عروض مغرية للسكان لحثهم على مغادرة القرية. فعرضت على زوجين قرضاً دون فوائد لشراء حقل في منطقة قريبة من بونلاند.
ويعد الجيش الألماني مسؤولاً عن كل عمليات الصيانة داخل القرية النموذجية، عندما تتعرض الأبواب أو النوافذ مثلاً للضرر جراء استخدام إطلاق النار أو كسرها في تدريبات الاقتحام.
ووفقاً لتلفزيون "بايرشه روندفونك"، يحاول الجيش عدم تخريب القرية البافارية وتشويه صورتها قدر الإمكان، رغم أن ما يصل إلى 50 ألف جندي من حلف الناتو يتدربون فيها سنوياً.
وكان مِن بين مَن تدرب في القرية أيضاً، 32 عسكرياً من البشمركة الكردية، وذلك في العام 2014، ليقوموا بتعليم زملائهم عند عودتهم، في سياق جهود قتال تنظيم داعش الإرهابي في العراق.
ومن بين ما تدربوا عليه حينها صواريخ ميلان المضادة للدروع، وفقاً لموقع شتوتغارتر تسايتونغ. وكانت وزيرة الدفاع حينذاك أورسولا فون ديرلاين (رئيسة المفوضية الأوروبية المنتخبة) قد زارتهم خلال التدريبات، التي كانوا يقومون بها على يد مدربي مدرسة التدريب العسكري "إنفانتيري شوله" في هاميبلرغ.
يوم في العام لاستعادة الذكريات
ويُسمح لمن بقي على قيد الحياة من سكانها بزيارتها يوماً واحداً في السنة في فصل الخريف عادة.
ورافق تلفزيون "بايرشه روندفونك" سكانها السابقين في زيارتهم السنوية لها في العام 2015، بينهم مالك مطعم سابق فيها، يدعى فيلي أورتمان (86 عاماً)، الذي ما زال المكان يعني له الكثير، سيما أنه كان آخر مَن خرج منها، حسب قوله، فيجمع قصاصات من الصحف عندما يُكتب عن القرية، ويزورها كل عام.
ويقول أورتمان إنه وصل لبونلاند كلاجئ، كشأن اللاجئين الذين وصلوا لألمانيا في العام 2015، وإن أحد أبناء بونلاند أخبرهم حينذاك بأن القرية فارغة ولم يعد الفيرماخت يتواجد فيها، وكان والده متحمساً للقدوم إليها عندما شاهدها.
وكانت سيدة عجوز تدعى هيرمينه لوش من بين الزوار تشير للصحفية إلى المكان الذي وُلدت فيه في القرية.
وتجول الزوار لرؤية منازلهم السابقة وهم يتذكرون أين درسوا وقضوا أيام طفولتهم، قبل أن يزوروا القبور التي تشهد على الحياة في القرية سابقاً.
وتعد قلعة غرايفنشتاين في القرية من الآثار المحمية، والأماكن المغلقة التي لا يجري فيها تدريبات عسكرية. وتُفتح القلعة فقط لزيارات المعماريين والموظفين الحكوميين الذين يتأكدون من وضعها وإن كانت بحاجة لاتخاذ تدابير للحفاظ عليها.
وكانت القلعة يوماً مكان إقامة إيميليه ابنة شاعر ألمانيا الكبير فريدريك شيلر، المدفونة في مقبرة القري.ة
لماذا لم يرفض السكان خطة الجيش إخلاء القرية ؟
وتقول مقيمة سابقة في القرية لزود دويتشه تسايتونغ، عندما تم سؤالها عن سبب عدم معارضتهم خطط الجيش الألماني اتخاذ قريتهم موقعاً للتدريب، إنهم كان مستأجرين فحسب هناك.
وكانت قرية بونلاند قد أصبحت من أملاك الدولة بعد ترحيل النازيين سكانها في العام 1938، وتم تعويض سكانها حينذاك بحقول ومزارع في مناطق مجاورة. أما مَن وصلها بعد الحرب العالمية الثانية فكانوا قد استأجروها.
يمكن الاطلاع على المزيد من الصور على الرابط التالي: هنا