ما الذي كنت تفكر فيه قبل ثانية؟ أو لنجعل الأمر أصعب، ماذا يقول الصوت داخل عقلك؟ سؤال مخادع تصعب إجابته.
ربما كنت تنطق داخلياً الكلمات التي تقرأها، أو تشاهد صورةً ذات صلةٍ بها من ذاكرتك البصرية، أو تتولد لديك استجابةٌ عاطفيةٌ تجاهها.
من الممكن أيضاً أن يكون لديك مزيجٌ من هذه الأفكار، وأفكارٌ أخرى تتداعى في رأسك مرةً واحدةً، أو أنك كنت تفكر في شيءٍ آخر، بطريقةٍ أخرى تماماً.
أياً كان ما يحدث، فمن المحتمل أن تجربتك الداخلية الحقيقية، أو ما كنت تفكر فيه قبل أن تبدأ في محاولة معرفة ما كنت تفكر فيه، تضيع الآن أمام ضباب الوقت.
لا يبدو التحقق مما يجري داخل عقولنا مهمةً صعبةً، ولكن من خلال محاولة تسليط الضوء على تلك الأفكار، فإننا نشتت الشيء الذي كنا نريد قياسه في المقام الأول.
أو كما قال الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس في عام 1890: "إن محاولة تحليل الاستبطان هي في الواقع محاولة وضع يدك على لعبة ذات جوانب مدورة للتحكم في حركتها، أو محاولة إشعال المصباح بسرعة كافية لرؤية كيف يبدو الظلام".
هل يمكن أن نرى داخل عقولنا؟
أمضى عالم النفس راسل هورلبورت، من جامعة نيفادا في لاس فيغاس، العقود القليلة الماضية في تدريب الناس على الرؤية داخل عقولهم بشكلٍ أوضح، في محاولةٍ لتعلم شيءٍ عن تجاربنا الداخلية بشكلٍ عامٍ.
وعلى الرغم من أن عديداً من الدراسات الفردية حول الكلام الداخلي تتضمن فقط عدداً صغيراً من المشاركين، وهو ما يجعل من الصعب معرفة ما إذا كانت نتائجهم تنطبق على نطاقٍ أوسع أم لا، إلا أن هورلبورت قدّر أنه استطاع إلقاء نظرةٍ خاطفةٍ على عقول مئات الأشخاص منذ أن بدأ بحثه.
وما وجده يوحي بأن الأفكار التي تجري عبر رؤوسنا أكثر تنوعاً مما قد نفترض.
مثلاً، يبدو أن الكلمات لا تظهر بشكلٍ كبيرٍ في أفكارنا اليومية كما يعتقد كثير منا.
يقول هورلبورت لهيئة الإذاعة البريطانية BBC: "يعتقد معظم الناس أنهم يفكرون بالكلمات، لكن كثيراً من الناس مخطئون في ذلك".
ماذا نقول لأنفسنا؟
في دراسةٍ صغيرة، على سبيل المثال، أُعطي 16 طالباً جامعياً قصصاً قصيرةً قبل أخذ مجموعةٍ عشوائيةٍ منهم لمعرفة ما كانوا يفكرون فيه في أثناء القراءة.
ربعهم فقط كان يُفكر في كلماتٍ أصلاً، بينما كان 3% منهم فقط كانوا يسردون القصة داخلياً.
لا يمكن تعميم هذه النتائج على الجميع، لكنها تفسح المجال للتفكير عندما يتعلق الأمر بتجاربنا الداخلية، خاصةً بالنسبة لأولئك الذين لم يتوقفوا فعلاً عن التفكير فيما يجري بالفعل داخل أذهاننا يوماً بعد يوم.
يقول تشارلز فيرنيهوف، عالم النفس بجامعة دورهام ومؤلف The Voices Within: "إذا كان هناك شيءٌ يجمعك به ارتباطٌ حميميٌ، ولا تتوقف أبداً عن التفكير فيه، فلن تستغرب حين تنظر إليه لتجده أكثر إثارةً للاهتمام مما كنت تعتقد".
لكن بالنسبة لعلماء النفس مثل فيرنيهوف وهورلبورت، فإن البحث عن الكلام الداخلي ليس بالمهمة السهلة.
الصوت داخل عقلك هل هو أفكار؟
يقول هورلبورت، ببساطة، إن سؤال الناس عما يفكرون فيه لن يؤدي بالضرورة إلى إجابةٍ دقيقةٍ.
يرجع ذلك إلى أننا بشكلٍ ما لم نعتد إيلاء عقولنا الطوافة اهتماماً وثيقاً، ولكن أيضاً لأن الأسئلة التي تميل الدراسات إلى طرحها حول أفكارنا قد تدفعنا إلى الإجابة بطريقةٍ معينةٍ، وذلك شيءٌ يعتقد هو أنه يدفع الناس إلى الإبلاغ عن معلوماتٍ داخليةٍ أكثر مما يشعرون به حقاً.
لكن هورلبورت يُفضل طريقةً تسمى عينات التجربة الوصفية، أو DES.
فيبذل جهداً للبقاء على اطلاعٍ على الشكل الدقيق لأفكار الأشخاص، وذلك باستخدام أسئلةٍ ذات نهاياتٍ مفتوحةٍ تهدف في النهاية إلى الحصول على إجاباتٍ دقيقةٍ دون دفع الناس إلى القول إنهم كانوا يفكرون في كلماتٍ أو صورٍ، على سبيل المثال.
في طريقة DES، تحمل جهازاً في أثناء قيامك بنشاطاتك اليومية المعتادة.
عندما يصدر صوتاً، تستمع إلى ما كان يدور في ذهنك لحظتها.
كلمات أو صور أو مشاعر؟
في نهاية اليوم، يمكنك استخلاص المعلومات من طبيبٍ نفسيٍ يسألك أسئلةً لمعرفة ما كان برأسك في تلك اللحظة بالضبط، وما الشكل الذي اتخذته: الكلمات أو الصور أو المشاعر أو الإحساس البدني أو أي شيءٍ آخر.
يستغرق معظم الناس بضعة أيامٍ حتى يعتادوا استخراج الفكرة التي تشغل تلك اللحظة بالتحديد، وعدم ترك الأفكار الأخرى تشوش أوصافهم.
وبتكرار هذه العملية خلال الأيام القليلة التالية، بمساعدة أسئلة الباحث، يتحسن المشارك في ضبط ما كان يختبره في تلك اللحظة.
يقول هورلبورت: "لا يُلاحظ أحدٌ تقريباً في يوم الاختبار الأول كم كنت أُريد اللحظة بعينها بمنتهى الحرص".
تدوي الصافرة بضع مراتٍ كل يومٍ، والفكرة هي أن هناك متسعاً من الوقت بين الصافرات تكفي لنسيانها.
هذا هو المفتاح، لأنه يطالبك بالتحقق من أفكارك خلال يومٍ عاديٍ بدلاً من إعدادها في معملٍ اصطناعيٍّ، أو في الوقت الذي تُدفع فيه إلى الاستقراء.
البعض لا يتحدث مع نفسه إطلاقاً
يقول هورلبورت: "اتهمني الناس لحديثي عن الصافرة السحرية، هذا ليس سحراً، لكنه يسمح لك بعمل شيءٍ يصعب للغاية أن تقوم به وحدك".
يشبّه الأمر بالقفز بالمظلة إلى غابةٍ غير مضطربةٍ: قد تهرب بعض المخلوقات الصغيرة، ولكن لا يزال بإمكانك مراقبة ووصف كثير من صفات الغابة في حالةٍ أقرب إلى حالتها غير المضطربة.
تشير مراجعة 2013 التي قام بها هورلبورت وزملاؤه إلى وجود اختلافاتٍ فرديةٍ هائلةٍ بين الأشخاص في مقدار الوقت الذي يقضونه في التحدث مع أنفسهم داخل رؤوسهم والتي كُشف عنها من خلال الدراسات التي أُجريت باستخدام طريقة DES.
فمتوسط تواتر التحدث الداخلي عبر المشاركين في البحث هو 23%، مغطياً مدىً كبيراً يمتد من 100%، بمعنى أنه بالنسبة لبعض الناس، في كل مرةٍ كانت تؤخذ بيانات أفكارهم، يكون لديهم سردٌ داخليٌّ ما أو محادثةٌ داخليةٌ جاريةٌ، إلى 0%، بمعنى أن بعض الأشخاص لم يتحدثوا قط مع أنفسهم داخلياً.
مكانٌ هادئٌ
إذا كان الناس لا يتحدثون باستمرارٍ مع أنفسهم، فماذا يفعلون؟
في السنوات التي قضاها في دراسة الأعمال الداخلية لعقول الناس، توصل هورلبورت إلى خمس فئاتٍ من التجارب الداخلية:
- التحدث الداخلي، الذي يأتي في أشكالٍ متنوعةٍ
- الرؤى الداخلية، التي يمكن أن تعرض صوراً لأشياء رأيتها في الحياة الواقعية أو لمشاهد وهميةٍ.
- والمشاعر، مثل الغضب أو السعادة، والوعي الحسي، مثل أن تكون مدركاً بخشونة السجاد تحت قدميك.
- التفكير غير المُجسَّد، وهو مفهومٌ يصعُب شرحه، لكنه بالأساس فكرةٌ لا تتجسد على شكل كلماتٍ أو صورٍ، لكنها موجودةٌ بلا شكٍ في ذهنك.
لكن تلك التصنيفات تترك مجالاً للتنوع أيضاً. فخذ حديثاً داخلياً مثلاً، تجده يمكن أن يأتي في شكل كلمةٍ واحدةٍ أو جملةٍ أو سردٍ من نوعٍ ما، أو حتى محادثةٍ.
ستكون فكرة الحوار الداخلي، وليس السرد مألوفةً لأي شخصٍ سبق أن تدرب على محادثةٍ مهمةٍ، أو أعاد صياغة حجة في ذهنه.
صديق وفي أم منافس فخور؟
لكن الشخص الذي نتحدث معه داخل رأسنا لا يُمثل دائماً شخصاً آخر، بل غالباً ما يكون هذا الصوت الآخر جانباً آخر من جوانبنا.
في دراسة أُجريت عام 2015، طلبت مالغورزاتا بوتشالسكا – واسيل، عالمة النفس بجامعة جون بول الثاني الكاثوليكية في لوبلان ببولندا، من الطلاب وصف الأنواع المختلفة للأصوات الداخلية التي يُجرون محادثاتٍ داخلية معها، وتوصلوا إلى قائمةٍ بأربعة محاورين داخليين شائعين:
- صديقٌ وفيٌ
- الوالد المتضارب
- المنافس الفخور
- الطفل العاجز
قد يظهر كل صوتٍ في مواقف مختلفةٍ، فالصوت الأبوي المتضارب قد يُقدم نقداً مراعياً، في حين يميل المنافس الفخور على الأغلب إلى التركيز على النجاح بدلاً من تقديم الدعم.
وقد نتبنى هذه الأدوار المختلفة، لمساعدة أنفسنا على التغلب على مواقف مثل اختبارٍ صعبٍ أو لعبةٍ رياضيةٍ.
لكن وعلى الرغم من أن البحث الحالي لم يستطع بعدُ تسليط الضوء على تلك الحقائق الكبرى حول الأعمال الداخلية لعقولنا، فإن تعلُّم كيفية الاستماع لأفكارك قد يساعدك على مستوىً فرديٍّ.